عكا… ذكرياتي في “زاروب مري” بقلم: علي الزيبق

ما أن تدخل إلى الزقاق المؤدي لساحة عبود القادم من السوق العمومي أو القادم إلى كنيسة سانت جورج في البلدة القديمة، تبدأ رائحة الترمس والفول النابت تفوح بالمكان.
حاصل كبير ملاصق للكنيسة تتربع امرأة سمراء البشرة سمينة الجسد على كرسي خشبي مغطى ببعض الأقمشة والصوف، تحمل منشة مصنوعة من ريش الحبش، تضع على رأسها منديلا أبيض مطرزا ببعض أشكال الزهور، وضفائر من الشعر الأبيض يغطي قسما من وجهها… دائما كانت منشغلة بإعداد القراطيس الورقية من بقايا الدفاتر المدرسية.
نناولها الشلن أولا وهو عبارة عن 5 قروش وبعدها نحصل على مبتغانا وفي موسم الشتاء كانت تصنع عنبر التفاح وهو عبارة عن تفاحة صغيرة تكسوها طبقة سميكة من السكر المصبوغ باللون الأحمر. وفي الشتاء كانت تبيع الكاز، قبل أن نتعرف على قوارير الغاز.
“الدفع قبل الرفع” ولسان سليط ومدرسة بتعليم الشتائم، وأعتقد أن هذه السيدة لديها الفضل الأكبر بإنشاء اللغة الشعبية والتي استعملتها نساء بلدنا في ” الطوشة ” العمومية، أنها سيبويه اللغة الحاراتيه .
اسمها “ماري العبدي”، في طفولتنا الأولى كان اسمها يتردد في كل بيت، عندما تريد ألام الكعكية إخافة طفلها من السهر أو البكاء أن يأتي “البعبع” ماري…
ماري كانت مرأة مكافحة ومناضلة، صحيح أن أحدا لم يسلم من شر لسانها السليط… لكني أحببتها، أجلس على عتبة حانوتها وأحرسه عندما كانت تغط بالنوم في أوقات القيلولة… شخيرها كان يصل حتى نهاية الزاروب… والمكافأة طبعا قرطاسين من الفول والترمس وأحيانا ربع ليرة.
في عيد الفصح المجيد كانت مهمتي أن أقطف ما تيسر من أزهار الصفير من أرض أبي العسل المحاذية لسور عكا القريب من مسجد الجزار، شوال أو أكثر والمكافأة نصف ليرة… وكيس من شقائق النعمان له ضعفا ثمن الصفير…
لاحظت أيضا أن ذهنها يشرد أحيانا، تنظر إلى “حبات الترمس” وكأنها تشكو إليه حالها، وتطلب منه مفارقتها، ورغم أن عمرها تجاوز الستين، إلا أنها تبدو أكبر من ذلك بكثير، انحنى ظهرها، وسمن جسدها، ورسم الزمن على وجهها ما مر بها من شقاء وتعب، فمنذ نعومة أظافرها هي تعمل وتشقى يوميا لتوفير لقمة العيش لأشقائها وشقيقاتها. في المساء كان يتجمع “شحادات” البلدة ومنهن “صبحية الطرمه ” وبعض أصحاب الاحتياجات الخاصة تسهر معهم وتطعمهم… كانت أم الفقراء.
صورة جمال عبد الناصر كانت من خلفها… وكانت تقول دائما صرمايتو أشرف من ملوك العرب، وفي الانتخابات كانت تدعو التصويت للحزب الشيوعي، ولا أعرف إذا حصلت على يوم من الأيام على البطاقة الحمراء.
تذكرتها اليوم عندما مررت من الزاروب الذي أصبح يحمل اسمها… وقفت أمام حانوتها ودارت في ذهني كل حكاياتها…
الله يرحمك يا ماري…
بلطف: نقلا عن صفحة علي الزيبق
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
جديد الأخبار