الفنّان والالتزام بالذات الفنية … بقلم : الدكتور منير توما

الفنّان والالتزام بالذات الفنية

بقلم : الدكتور منير توما

                                                                                   كفرياسيف

إنّ الحديث عن مسؤولية الفنان بسلامة فنهِ تشمل جميع الفنانين في شتى مجالات الفن المتنوعة والمتعدّدة من فن تشكيلي كالرسم والنحت والتصوير وكذلك فن الشعر والموسيقى والتمثيل والغناء وغيرها من الفنون الحياتية التي تستقطب الرؤى البشرية بمختلف المناحي والاتجاهات ثقافيًا واجتماعيًا وانسانيًا . ومن هنا فإنّ على الفنان واجبًا أصيلًا واحدًا ، ألا وهو التزامه بما يوحي بهِ ضميره الفني ، وليس أن يهتم بمن لا يفهم موضوعات فنهِ كموضوع لوحاتهِ اذا كان رسّامًا مثلًا أو غير ذلك من أنواع الفن .

إنَّ كل الفنون على وجه العموم بأعمالها التي تنطلق بمصدرها من حاجة باطنية – ذاتية ونفسانية ، تَصنّف بجوهرها بالتعبير عن حقيقة مطلقة شاملة ، فالفنان ينزع للتعبير عن رغبات يصبو الى تحقيقها عن طريق حدسهِ دون أن يعيها عقله ، وبذلك يقترب الى وحدة تفاعلية مع الكون كإنسانٍ فريد في شخصيتهِ وكينونته النفسية . فهو يسعى الى تحقيق ذاته عبر ألوان متنوعة ، وخطوط متداخلة ، ومساحات محدودة أو واسعة ، وكأنها بصدد تكوين رؤيا معينة أرادها الفنان للوصول الى مبتغى معين .

ومن المهم الإشارة الى أنّه على الفنان أن يثق بالمجتمع الذي يعيش في ظلاله ، وأن يشعر بطمأنينة موقفه من حيث مقياس مشاعر وإحساس الآخرين بهِ . فالفنان رغم مسؤولياتهِ وضيقاته وصراعاته في الحياة ، يميل دائمًا الى اعتماد نظرة بسيطة للحياة من خلال ارتباطهِ بها بعواطف جيّاشة ، ومشاعر فيّاضة نحو استقرار ذاتي نفسي يجعل منه انسانًا يتمتع بالسكينة والهدوء كأي شخص يحظى ببساطة الكيان البشري .

إنَّ الفنان في أعماله يعلن موقفًا خاصًا تجاه الحياة والمجتمع والناس . فهو يبدع كي يثري عالمه بأعمال فيها تصوير لتقدّم الحياة من جهة ، وتناقضات تعتمل في نفسهِ من جهةٍ أخرى . وفي هذا يرسم مجازًا الحقيقة عارية كي يراها أو يسمعها الآخرون . إنّ الفنان قبل أن يكون فنانًا يتوجب عليه أن يكون مؤمنًا بأعماله مهما تنوعت ، وأن الأفراد الذين سيتلقون هذه الأعمال يتمتعون بإنسانية لا تقلّ عنه ، وهذا الأمر يحفّزه ويدفعه تلقائيًا للتعبير عن مفاهيم سامية ومعانٍ تحمل في طيّاتها التفاؤل الاجتماعي على المستوى الفردي خاصةً ، وعلى المستوى البشري عامةً كالحرية والسعادة والكرامة ، وقوة الاعتزاز بالنفس وفضائل المحبة والخير والجمال .

ومما يشارُ إليه أنّ بعض الفنانين يشعرون بالضآلة أو النقص أمام أعمال غيرهم من الفنانين الكبار المشهورين ، وهذا ما يجب أن لا ينتهجه ويشعر بهِ الفنّان الصادق المخلص لفنهِ مهما كان عمله متواضعًا في نظرهِ ، بل عليه أن يستفيد من خبرة وتجربة فنّان عظيم أو زميل له ، دون أن يفقد ثقته بنفسهِ ، وبالتالي عليه أن يعتز ويفخر بالأعمال الجيدة لأي فنان لإتقانهِ العمل بحرية وخصوبة التصوير أو الأداء عامةً كقيمة مطلقة للفنانين كافةً . وبذلك يتوجب على الفنّان بمنطلقه الجمالي أن لا يُعجب فقط بكل عمل فني جديد ، بل أن يؤمن بقيمة ووظيفة الأعمال سواء كانت أشكالًا أو أنماطًا ثابتة ومعروفة في الحياة الفنية بروافدها المتعدّدة ، ففي الشعر خاصةً ، والفن عامةً ، فإنّ الفنّان بتكوينهِ ، لا بد أن يبدع بانفعال عاطفي كالرجل البسيط الشعبي البعيد عن التكوين العقلي المركّب . وبهذا الشكل يشعر الفنّان بأصالتهِ الفنية التي يستخدمها كوسيلة تعبيرية عن الأمور التي تختلج في مكنونات صدرهِ . وهذهِ هي المعاني التي تعطي النظرة الشمولية للحياة في تكاملها ، وتجعل الانسان المتماسك جزءًا من الواقع المعبِّر عن قيم مطلقة مرتبطة بواقع الشيء والحياة حيث أنَّ ما يصبو إليه الفنّان في الواقعية هو الصدق التلقائي المقرون أو المصاحب للانفعال ، وبهذا التفكير يستطيع الفنّان أن يتجنّب الضياع في أبعاد ميتافيزيقية . وهكذا يكون الفنّان متمتعًا برؤية صلبة ، وبناء متكامل يدعم ثقته بنفسه مما يمنح العمل الفني حيويةً وشاعريةً . ولا بُدَّ هنا من التأكيد أنّه لا يتوجب بل لا يحق للفنّان أن يستبد برأيه ، ويتصرف وفقًا لرغبته وبالتالي يأتي عمله الفني عشوائيًا اعتباطيًا ، فإبداع الفنّان التلقائي ما هو إلّا نتيجة لتفاعلهِ الشامل مع المجتمع ، وصدقهِ مع نفسهِ .

وأخيرًا وليس آخرًا ، نستخلص أنَّ على الفنّان أن يعي بأنّ قوة العمل الفني تعتمد على النغم والإيقاع ، كما يحدث في الموسيقى وفي التصوير وبقية الفنون ، فالتحكم في ضربات الفرشاة ، أو القلم ، كذلك في ضربة واهتزاز القوس على الآلة الموسيقية، يقدّم لنا صورة واضحة عن مدى سيطرة الفنّان على ايقاع داخلي خاص بهِ ، مصدره نابع من تجربتهِ الحياتية ، ايقاع يحدّد مقوّمات الفنّان الشخصية باختلافهِ عن غيره من الفنّانين إيقاعيًا . وهكذا ، فالنغم في الصورة أو التمثال ، نراه في تأكيد الفنّان على بعض الأجزاء ، وعلاقتها بالأجزاء الباقية . وفي ضوء كل ما ذكرناه هنا ، نجد أنَّ الحقيقة التي يتعامل معها الفنّان تختلف الى حدٍ كبير عن وقائع الحياة ، فجوهر الحقيقة لا يمكن الوصول إليه ، فالفنان بتكوينهِ السيكولوجي دائم الشعور بأنّ مفرداتهِ وخبراته تقف عائقًا في إظهار الحقيقة بشكل كامل لا سيّما وأنَّ الحرية الضرورية للفنّان في ابراز الحقيقة من خلال عملهِ الفني ، تتطلب الفهم الواعي والحقيقي للحرية الذي يجب ان يتضمن التزامًا من نوع ما . وبالنسبة للفنّان وعلاقته بالحرية والالتزام نسوق ما أورده الفيلسوف الألماني هﻴﭼل حيث يقول :

«.. حينما تكون الحرية غير مرتبطة .. والالتزام بلا حرية .. تصبح الأمور مجرد أشياء مجردة .. تركيبة فكرية لا تمت للواقع والحقيقة ..» … إذن فالحرية نسبية ومرتبطة ومشروطة بالالتزام .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار