حول المجنون والبحر / وهيب نديم وهبه / شرفة تطل على بحر الحياة

حول المجنون والبحر /

وهيب نديم وهبه /

شرفة تطل على بحر الحياة

كتبَ: فاضل جمال علي

بعد قراءة (المجنون والبحر) شعرتُ بحاجة إلى الاستراحة الطويلة، لترتيب الأمور، وبناء نظام وهيكل للمبني الغني الذي يطرحهُ أمام القارئ.

وهيب نديم وهبة يطرح نموذجًا وجدانيًا عاطفيًا يجيش بالشاعر إلى حد أل (كاؤوس) ويترك المجال لكل قارئ على حده لكي يضع التسلسل المنطقي لهذا العرض اللامتناهي، أنهُ يتناول الحياة على مصاريعها، الحياة الممسرحة بذاتها ولكنه يحاول مسرحتها أو إعادة مسرحتها من خلال رؤيته غير الموضوعية وهذه أل (غير الموضوعية) أو (اللاموضوعية) هي المحور المنطقي لهذا الواقع (اللامنطقي) الذي نعيشه ومسرح هذا الكتاب هو، أيضًا، مستحيل فهو الخط الرفيع الدقيق والوهمي الذي يفصل بين البحر واليابسةبين الصحراء والغابةبين الواقع والخيالبين الحياة والموت.

فلا حاجة إذن إن نتجادل حول محاولة وهيب (مسرحة القصيدة العربية) أو أن نقارنها بأعمال (أحمد شوقي) وغيره، لأن وهيب أراد أن يكون لكل قارئ مسرحهُ الخاص به خلال تعامله مع هذا العمل الأدبي.

كما أن الحلقات الأولى كانت تمهيدية لتسلسل ألحدثي الفعلي، ففي الحلقة السابعة وحتى الثانية عشر نلاحظ وجود الحركة بشكل بارز، وتطور ألحدث حتى ألنهايةكما أن النهاية بحد ذاتها ليست أحادية الأبعاد مما يترك الأمل بعد خضم الحوار الذي هو قلب هذا الكتابوهو اختار قاصدًا أن يُبوّب الفصول باسم (حلقة) وليس (مشهد) كما يقتضي العمل المسرحيوكان هذا الاختيار بعيدًا عن الصدفة

كما انهُ لم يفصل بين المجنون حينا وهو الخارج من شخصية المجنون إلى دور المؤلف حينًا أخروهو يتكلم مرة باسم المجنون، وتارة أخرى يتكلم عن المجنون باسم وهيبوهذا الحوار المميز والمناورة التي تتسم بالحرب والحب، بالصدّ والردّ، بالفراق والوصال هي محور الكتاب. وهو عمليًا يجري الحوار مع هالةالتي ليست بحاجة إلى تعريفمرة كالمجنون ومرة يتدخل من الخارجفي هذا الحوار ويحاول تقييمه من جديد وإعادة النظر في مواقف المجنون، وفي الواقع هذا (الديالوغ) هو بين وهيب والمجنونأي بين وهيب وبين نفسهوهو إذن (مونولوغ) صيغ بأداء فني جميل إلى حد الم الاعتراف بدنيوية هذه الحياةالظالمة والمضطهدةولكن سلاح وهيب تجاه دنيوية هذه الحياة ومسرحها الدائم المتواجد في كل زمان ومكان هو شاعريته المتجسدة في كيان هالةوهي النور كما نعرف أو دلالتهفهو يدخل المسرح (صافي العقل والوجدان) كالطفل البريء وينتهي إلى الترابالرحلة من الولادة إلى الموتمن ظروف الصفر إلى ظروف الصفر لذلك تبرز المعركة على ملء الحياة بالمعنى ذلك المعنى الذي يعطي للحياة مبررًا لاعتناقها وعدم التنازل عنها كما جاء عند (فكتور فرانكل)

لهذا نذكرت. س. اليوتالذي تحدث عن الحدث وعن السرد الذي حوله وقال أن الكاتب يطرح الحدث من أجل التشويق إنما ينبغي صيد القارئ بواسطة الجمل الجانبية التي يكتبها هنا وهناكوهذا يظهر عند وهيب إذ أن تصريحاته المهمة حسب رأيي تأتي من فمه هو وليس على لسان المجنونوهذا يظهر بصورة واضحة في الحلقة الأولى الممهدة لدخول المسرح الفكري للكتاب.

وهذه الازدواجية بين وهيب والمجنون ليست انفصامًا في الشخصية أو تعددًا لها، ولكنها بعض الانعكاس، والتأمل في مرآة الذات.

وانطلاقًا من هذا، فقد لفتت مشاعري هذه التصريحات الغنية كقوله:

هذا الْوهمُ الْقاتلُ

الّذي يجعلُ للْمادّةِ قدمينِ وكفّينِ

ويحملُ الْأرضَعلى كفّ هاويةٍ.

أو حديثه عن العاشق المجنون الذي يخرج من ذاته ويفرش أوراقه فوق طاولته:

الْعاشقُ الْمجنونُ يفتحُ للْفرحِ الْآتي

كلَّ زجاجاتِ الْحزنِ، ويسكرُ، ويشهقُ

ويهتفُ: “عاشَ الْفرحُ.”

وبين ألغابه التي تنبت أشجارها فجأة!” أو البحر هذا الرمز، والمد والجزر، والماء وما يسبر من أغوار النفس

والحركة المرئية وغير المادية هي إذن تلك الحركة المتوجهة من الخيال إلى الواقع وبالعكسوهذه هي قوانين أللعبهووهيب ينصب ميزانه الشعري والنفسي ليقيس فيه الوزن النوعي لمقومات الحياة الماديةوهي في الواقع عملية فنية غير محسوسة! وهذا لا ينعكس في انتقال المجنون من البر إلى البحر وعودتهوتكريره لهذه الشطحة الروحيةوفي هذا الميزان يضع وهيب كل عوارض حياتنا نحن:

مجرّدُ الْحلمِ جريمةٌنحنُ أمّةٌ مؤمنةٌ،

نؤمنُ بالْقضاءِ والْقدرِ، والْأجلِ الْمحتومِ

هذا الموقف الذي يشتق منه الحدودحدود الرحلة الشعرية الفكرية التي ترفض الحدود والقيودإلى صراع حتميإلى قاتل ومقتولوعدم إمكانية التعايشأي الخروج والثورة والتصدى والتحدى على الإجماع العامالكونسنزوس“… الضغط يولد الانفجار كما يقول المجنون العاقل الذي يتعذب ويثور وهالة هي الأرض التي تحاول أن تلائم نفسها لنزعاته بدون نجاحوهي مظلومة إلى حد ماهي الضحية في النهايةوحتى معها لا يمكن الوصول إلى اتفاقيات تعايشوهذه هي وحده الفنان الذي يعيش كجزيرةكل إنسان هو تلك الجزيرةكل إنسان مفكر ومرهف الشعوروالخروج من هذه الوحدة القاتلة هو عمليه الكتابة نفسها وهي ملاذ وهيب نديم وهبة، وهكذا هو يحاول إغلاق الدائرة

إذن وهيب يعالج الموضوع شكلا ومضمونًاممارسة وفكرًاولذلك تظهر أحيانًا تفسيرات مختلفة بين مستوى الممارسة والفكروقد تركت هذه الناحية وعزوتها لأغراض وأهداف المؤلفورأيت أن أقوم بتقييم الكتاب كلوحة واحدة تمتلئ بكل ألوان  الطيف الشمسي

إشارات:

  • فاضل جمال علي:  شاعر فلسطيني لهُ إصدارات شعرية عديدة للأطفالنال في عام   1996 وسام أندرسن من إتحاد أدب الأطفال العالمي في هولندا. لهُ إصدارات شعرية أيضًا للكبار ودراسات ومقالات نقدية واجتماعية وأدبية مهمة وعديدة
  • المجنون والبحر  الطّبعة التّاسعةبالعربيّة والانجليزيّة – 2022.
  • تمَّ تسجيل المجنون والبحر في مكتبة المنارة العالميَّة بصوت الإعلاميّة القديرة فادية نحّاس.
  • الإصدار لعام 2022  لوحة الغلاف الرّسامة آلاء مرتيني.
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار