ألّف موسوعة من 800 جزء وناصر الحلّاج وتأثر بالمعتزلة فمهّد لنشأة “الأشعرية الحنبلية”.. ابن عقيل الحنبلي متمرد أم إصلاحي؟

“وعانيتُ من الفقرِ والنَّسْخ بالأجرة، مع عِفّة وتُقى، ولا أزاحم فقيها في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة”!! عندما تجد مثل هذه المقولة -التي أوردها ابنُ رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘- تُزيِّن سيرةَ ترجمة عالم من العلماء في التاريخ الإسلامي؛ فينبغي لك التنبه إلى أنك إزاء قصة عقل يسعى نحو أمر عزيز وصعب، وهو: الاستقلال في النظر والفكر! وهذا ما ينطبق تمام الانطباق على حكاية الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) وعلى سيرة عقله.

كان ابن عقيل فقيها حنبلياً ومفكرا عقلانياً في الوقت نفسه؛ وهو أمر غير مستساغ عند البعض لما اشتهر به الحنابلة عند الناس من كونهم “نصوصيِّين”، إلى درجة أنّ مصطلح “أهل الحديث” يُراد به غالبا -عند إطلاقه- جموع الحنابلة، لكن العجيب أنّ هذا الإمام الحنبلي القُحّ كان ميّالا كلَّ الميل إلى المعتزلة رغم نبتته الحنبلية المتجذّرة!! ولن يعسر على المتأمل تحديد عوامل بوسعها تفسير موقف ابن عقيل ونزوعه هذا المنزع في التفكير الذي حورب من أجله أشد ما تكون الحرب الفكرية؛ فأول تلك العوامل طبيعة نفسيته التي ميزها الانفتاح على الآخر واستيعاب فضائله، وثانيها ظروف بيئة نشأته التي أتاحت له توسعة خياراته في الاستفادة والتكوين، وثالثها نظرته إلى الصراعات التي دبّت بين المذاهب الإسلامية باعتبار أن أكثرها ذو دوافع سياسية، وبالتالي فلا يصح تجذيرها بوصفها هوّة تمنع اللقاء بين الفرقاء.

والواقع أن كل تلك العوامل توافرت لعلماء كثر بالقدر الذي ناله ابن عقيل؛ ولكن امتلاك إرادة التغيير بما يجعلها مشروعا يؤسس للاعتراض على تشظي الأمّة بين التيارات والمذاهب، ويدعو للوقوف ضد توظيف السلطة السياسية لهذا الانقسام والتشظي، هو ما توافر لهذا الإمام بامتياز فحققه فكرا وممارسة بجدارة وجسارة، وكان سبيله إلى ذلك تجديد الحنبلية في زمنه عبر عملية انفتاح يشيع في جنبات هذا المذهب، فيؤسس لتيار عقلاني داخله ويَقرأ أصول الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) قراءة مغايرة لما هو سائد وشائع عنه.

لكن هذا الإمام لم يكن يعاني بسبب تلك الطبيعة المعرفية المتأملة فقط؛ فقد واجه عنتاً شديدا بسبب تدخلات السلطة التي هي بطبعها تخشى من الشخصيات الفكرية ذات المنزع القوي في الاستقلال والاستغناء، ثم إن مخالفيه سعوا لحصار ظاهرته عبر الاستقواء بالسلطة وتأليبها عليه، ومما زاد تعقيد الصراع أن ابن عقيل لم يتوقف عن نقد التزمت الحنبلي معرفيا تجاه الخصوم، بالشدة نفسها التي انتقد بها تحوُّل بعض هؤلاء الحنابلة إلى المذهبيْن الشافعي فقهيا والأشعريّ عقديا لمـّا عظُم شأن “المدرسة النِّظامية” ببغداد!!

واللافت في كل ذلك أن ابن عقيل كان بإمكانه أن ينتقل إلى الأشعرية أو الشافعية إلا أنه كان حنبلياً مخلصاً في ولائه وانتمائه، وكان يسعى للإصلاح المذهبي من الداخل ومواجهة الجناح المتشدد بقراءة رحبة لأصول المذهب الجامعة، وهذه فكرة عميقة في التغيير تركت أثرها التاريخي الإيجابي في مدرسة الحنابلة، فظل ابن عقيل -برغم كل خلاف معه- يُذكَر داخل طبقات أئمة علمائها، وصار له تلاميذه ونهجه المؤثر منهجيا داخل مذهبه وخارجه.

وتبقى اللحظة الأشد إيلاما في حياة هذا الإمام هي لحظة تقييد إقامته جبراً بين عاميْ 461-465هـ/1069-1074م، ثمّ باستتابته العلنية سنة 465هـ/1974م بمحضر من رموز السلطة وعلماء الحنابلة؛ فقد كانت تلك اللحظة نقطةً سوداء ليس فقط في سيرة هذا المفكر الألمعي، وإنما أيضا في تاريخ الصراع الفكري الذي طالما استغلته السلطة من أجل مدّ نفوذها وسيطرتها على المجال الثقافي والعلمي، والغالب أن إظهار ابن عقيل تراجعَه عن مواقفه -تحت الضغط- أخذ صبغةَ مناورةٍ فكرية لينهي تلك المأساة، وليس واضحا ما إن كان تغيُّر موقفه من الحلّاج الصوفي (ت 309هـ/921م) -الذي أبدى تأييده إياه في المُجمل- مندرِجاً في ذلك التراجع الشكلي أم لا؟

وهذه المقالة تحاول أن تتقفَّى العوامل العقلية والبيئية والنفسية الدافعة لظهور هذه العبقرية، والتي منها تلقيه العلم عن الحنفية نشأةً واستفادةً، ثم انتماؤه إلى الحنابلة اقتناعا واختيارا، ثم مصاحبتُه الشافعية والمعتزلة توسعةً للمدارك وزوايا النظر، وعندما اتسعت الرؤية فاضت العبارة فألف موسوعة الفنون التي قال عنها ابن رجب الحنبلي إنها بلغت “ثمانمئة مجلدة”!! وقال الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘تاريخ الإسلام‘: “له كتاب ‘الفنون‘ لم يُصنَّف في الدنيا أكبر منه، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمئة”!!

إن هذه الأوصاف -التي جاءت من شخصيات علمية لا تعرف المجاملة أو المبالغة- تدل على سعة العقل ورحابة الأفق اللتين اتسم بهما ابن عقيل؛ فهل كان ميلُه إلى الاعتزال ميلا تقريبيا بين الفِرق الفكرية أم إنّه كان مقتنعاً حقّا ببعض مقولات المعتزلة؟ وإلى أي حد نجح في إصلاحيته داخل المذهب الحنبلي بتأسيس منزع عقلاني داخله مهّد لظهور تيار “الأشعرية الحنبلية” الذي كان الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) من رواده؟ ذلك ما تسعى هذه المقالة -التي أعِدت بمناسبة الذكرى الـ900 ميلادية لوفاة ابن عقيل- للوقوف على بعض جوابه وجوانبه لتبيُّن حقيقة صنيع هذا الإمام المثير للجدل!

 

نشأة عقلانية
نشأ ابن عقيل نشأة عقلانية في بيئة عائلية حنفية تميل إلى الاعتزال؛ فبدأ طلبه العلم مقلّدا حنفيًّا ثمّ تحول إلى مذهب أحمد، لكنّه ظلّ منفتحاً على جميع التيارات والمدارس. وبتتبع مشايخه ممن تلقى عنهم ندرك أنّه لم يكن يؤمن بانحصار أخذ العلم في مشايخ المذهب فحسب، فقد أخذ عن أعمدة كل الفنون كالقاضي أبي يعلى الحنبلي (ت 458هـ/1067م)، وشيخ الشافعية أبي إسحق الشيرازي (ت 476هـ/1083م)، وأبي علي ابن الوليد المعتزلي (ت 478هـ/1085م) الذي درّس مقولات المعتزلة سرًّا لابن عقيل.

وبعبارة الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘؛ فإن ابن عقيل “أخذ علم العقليات عن شيخيْ الاعتزال أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان صاحبيْ أبي الحسين البصري (ت 436هـ/1045م)، فانحرف عن السنة”؛ وقال في ترجمته لابن الوليد هذا: “كان داعية إلى الاعتزال وبه انحرف ابن عقيل”.

إلا أن الذهبيّ وصفه -في كتابيْه ‘سِيَر أعلام النبلاء’ و‘العِبَر‘- بأنه “كان إماما مبرّزا كثير العلوم خارق الذكاء”، وبأنه “شيخ الحنابلة”؛ وهو الوصف نفسه الذي أطلقه أيضا على شيخ ابن عقيل: القاضي أبي يعلى الحنبلي الذي “انتهت إليه الإمامة في الفقه وكان عالم العراق في زمانه”!!

وفي ترجمة ابن عقيل الحافظ ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘لسان الميزان‘- قال إنه “أحد الأعلام وفرد زمانه علماً ونقلاً وذكاء وتفنناً…، إلا أنه خالف السلف ووافق المعتزلة في عدة بِدَع”. وبالتمعن في ترجمة ابن عقيل الحنبلي ندرك أنّه لم يكن معتزلياً بشهادة خصومه، بل وافقَ المعتزلة فقط في بعض المسائل، وهذه نقطة الخلاف البادية بينه وبين خصومه.

وعند التحقيق نجدُ أنَّ كثيراً من علماء الإسلامِ وافقوا المعتزلة والشيعة والخوارج وغيرها من الفِرَق في كثير من المسائل، بل إنه ما من مذهب إلا وكان بعض فقهائه موافقين للمعتزلة خاصة في الكثير من آرائهم تصريحا أو تلميحا؛ فالجوينيّ (ت 478هـ/1085م) مثلا خالف السلف في اشتراط القرشية في الإمام، واتفق مع الخوارج في عدم اشتراطها، وجعل الأمرَ إلى اختيار الأمة وانتخابها.

ولذلك ردّ الجويني حديث «الأئمة من قريش» الذي اعتمد عليه جمهور أهل السنّة. يقول في كتابه ‘غياث الأمم‘: “الذي يوضح الحقَّ في ذلك أنّا لا نجد من أنفسنا ثلَجَ الصدور؛ واليقين المبتوت بصَدَر هذا من فَلْق (= فَمِ) رسول الله ﷺ، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد؛ فإذن لا يقتضي هذا الحديث العلمَ [القطعي] باشتراط النسب في الإمامة”.

ونجد الذهبيّ -الذي يصف ابن عقيل بالانحراف عن السنة بسبب مسائل- مدافعا عن شيخه ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ترجمته، رغم تقريره أنَّه يُخالفه في أصول وفروع؛ إذْ ينقل عنه ابن حجر -ضمن ترجمته للذهبي في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة’- قولَه عن ابن تيمية: “وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية”. ومقتضى كلام الذهبي هذا أنّ الأصول نفسها مراتب متفاوتة.

وخالف أبو الطيب الباقلانيُّ (ت 402هـ/1012م) إمامَه أبا الحسن الأشعريَّ (ت 324هـ/935م) في كثير من المسائل حسبما نصّ عليه الغزاليّ في ‘فيصل التفرقة‘؛ حيث يقول: “من أين ثبت له (أي المكفِّر بمخالفة مذهب الأشعري) كونُ الحقِّ وقْفاً عليه حتى قضى بكفر الباقلانيّ إذ خالفه (= الأشعريّ) في صفة البقاءِ لله تعالى، وزعم أنّه ليس وصفاً زائداً على الذات؟! ولمَ صار الباقلانيّ أولى بالكفر بمخالفة الأشعريّ من الأشعريّ بمخالفة الباقلاني؟”.

كما عارض أبو حامد الغزاليُّ (ت 505هـ/1111م) جماعتَه الأشاعرةَ في مسائل كثيرة حتى أخرجه متعصبون منهم من الملة. وكان تكفيرُه -من الداخل المذهبيّ الشافعي لا من خارجه- سببا في تصنيفه كتابَه ‘فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة‘ الذي يقول فيه رافضا حصر الحق في مذهب معيّن: “فإنْ زعمَ أنّ حدَّ الكفرِ ما يُخالف مذهب [أبي الحسن] الأشعريّ (ت 324هـ/936م) -أو [الـ]ـمذهب المعتزليّ أو الحنبلي أو غيرهم- فاعلم أنّه غِرٌّ بليد، قد قَيّده التقليد، فهو أعمى من العميان، فلا تُضَيّع بإصلاحه الزمان”!!

 

تسامح علمي
وقد ترحم أهل المذاهب الإسلامية على بعضهم البعض رغم الخلاف بينهم؛ فالإمام الفخر الرازيّ (ت 606هـ/1209م) يترضى على ابن سينا (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘أساس التقديس‘ فيقول: “قال الشيخ –أي ابن سينا الرئيس- رضي الله عنه: وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة”، مع أنّ ابن سينا أبعد شُقَّة عن أهل السنّة من المعتزلة. وقد تتلمذ كثير من أهل السنة على غير أهل السنة والعكس، وعند التتبع نجد أن كثيرا منهم مختلف عقديا وفقهيا مع شيخه أو تلميذه.

بل إنّ علماء الحديث جوّزوا الرواية عن المبتدع بشروط معروفة عندهم، أهمها أن يكون ثقة وصادقاً. وقد روت كتب الصحاح عند أهل السنّة -وعلى رأسها صحيحا البخاري (ت 256هـ/870م) ومسلم (ت 261هـ/875م)- عن المبتدعة. وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر:

“وأمّا البدعة فالموصوف بها إمّا أن يكون ممن يكفَّرُ بها أو يُفسَّق. فالمكفَّر بها لابد أن يكون ذلك التكفير متفقاً عليه من قواعد الأئمة…، والمفسّق بها كبدع… الطوائف المخالفين لأصول السنّة خلافاً ظاهراً لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ؛ فقد اختلف أهل السنّة في قبول حديث مَن هذا سبيله إذا كان معروفاً بالتحرز من الكذب مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة موصوفاً بالديانة والعبادة”.

ونخلص من هذا كلّه إلى أنّ ما حصل لابن عقيل من اضطهاد على أيدي أقرانه من الحنابلة لا يُمكن فهمه على أنه بسبب موافقته للمعتزلة أو بسبب طلبه علوم العقليات على بعضهم فحسب، بل ثمة أمور متشابكة ينبغي لمحها وتتبعها.

فإذا كان ابن عقيل بشهادة خصومه ليس معتزليا، بل هو متأثر فقط ببعض مقولاتهم؛ فإنه على ما يبدو كان احتوائياً وتوليفياً، ومن كلامه الذي يؤيد طبيعته التوفيقية ما نقله عنه ابن مفلح الحنبلي (ت 763هـ/1362م) في كتابه ‘الفروع‘: “لا ينبغي الخروج عن عادات الناس إلا في الحرام؛ لتركه عليه السلام بناء الكعبة. وترَك أحمدُ (ابن حنبل المتوفى 241هـ/855م) الركعتين قبل المغرب وقال: رأيتُ الناس لا يعرفونه”.

وهو في مذهبه التوفيقي هذا شابهته قلّة قليلة في تاريخ الإسلام، ممن حاولوا التقريب والاحتواء والتوليف على مستوى رجال المذاهب ومقولات المذاهب، مثل العز ابن عبد السلام الشافعي (ت 660هـ/1262م) الذي انتقد تطرف بعض الأشاعرة في التكفير؛ والقرافيّ المالكي (ت 684هـ/1285م) الذي جوّز التلفيق المذهبيّ، وخرج عن بعض أقوال مذهبه المالكي. وغيرهما من علماء يجود بهم الدهر ليُجددوا أمر الدين، ويُعززوا الدرس الفقهي بقراءاتهم العميقة.

ويبدو أنّ فلسفة ابن عقيل التوليفية كانت عاملا مهمّا من أسباب محنته أيضا؛ إذ كان ذا منهج تقريبي تجاه الصوفية –وقد كان حسب الذهبي واعظا بارزا حتى تأثر ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) بمنهجه الوعظي- حيث دافع أولاً عن أبي الحسين الحلاج (ت 309هـ/921م) مثنيا عليه رغم أنه قـُتل بتهمة الزندقة.

وقال في ذلك طبقا لرواية ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: “اعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه”؛ وتجاه المعتزلة حيث تتلمذ على رجالهم فاعتنق بعض آرائهم، أو بعبارة ابن تيمية -في ‘درء تعارض العقل والنقل‘- كانت له “موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه «ذم التشبيه وإثبات التنزيه» وغيره من كتبه”.

وكذلك توفيقيته تجاه الأشاعرة؛ حيث لازم درس أبي إسحق الشيرازي الذي قال إنه هو مَن علمه فنّ المناظرة، وتولى تغسيله لما مات. وفي سنة 495هـ/1102م قُبض على الفقيه الشافعي أبي الحسن الطبري المعروف بـإلْكِيَا الهَرّاسي (ت 504هـ/1110م) –وكان كبير مدرسي المدرسة النظامية بعد مغادرة الإمام الغزالي لها- بتهمة القول “برأي الباطنية..، فشهد له جماعة بالبراءة من ذلك، منهم أبو الوفاء بن عقيل”؛ كما روى ابن الجوزي في كتابه ‘المنتظم‘.

 

 صراع المرجعية
ويبدو أن توليفية ابن عقيل سرت روحُها بين تلامذته حتى شاع فيهم الترحال بين المذاهب؛ فابن الجوزي ذكر ضمن تلامذة ابن عقيل: أبا الفتح ابن برهان البغدادي (ت 518هـ/1124م) الذي كان حنبليا ثم صار شافعيا، ويكشف لنا ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- سببَ ذلك التحول فيقول إنه “كان بارعًا في الفقه وأصوله، شديد الذكاء والفطنة؛ فنقم عليه أصحابُنا أشياء لم تحتملها أخلاقُهم الخشنة، فانتقل.. ووجد أصحابَ الشافعي على أوفى ما يريده من الإكرام، ثم ترقى وجعلوه مدرسًا للنظامية”!!

كما ترجم ابن الجوزي لتلميذ ابن عقيل الآخر أبي جعفر ابن الزيتوني (ت 542هـ/1147م) الذي كان حنبليا ثم انتقل إلى “مذهب أبي حنيفة…، وصار متكلما داعيا في الاعتزال”، عكس شيخه ابن عقيل الذي كانت عائلته حنفية المذهب فتحنبل هو.

ولابن عقيل عبارة صريحةٌ -نقلها عنه ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘- تدلّ على رجحان قراءة دور توفيقيته في محنته؛ إذ يقول: “وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً”. فهو يصف المخالفين هنا بالعلماء، ويتحسر على الفوائد التي فاتته بسبب استبداد المتشددين من علماء مذهبه وحرمانهم له من حضور دروس المخالفين. ولعل ابن تيمية كان موفقا حين حاول عَرَضاً تسويغ خروج ابن عقيل على المستقر عقديا لدى رفاقه الحنابلة؛ فقال: “ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس”!!

إن أبرز المسائل التي هوجم بسببها ابن عقيل يمكن حصرها فيما يلي: 1- ترحمه على الحلاج ودفاعه عنه. 2- اقترابه من المعتزلة. 3- علاقته بالسلطة السياسية. 4- علاقته بعلماء مذهبه. لقد كانت هذه العوامل من أهم الأمور التي اعتمد عليها خصومه في تأليب الدولة عليه، ونقول: الدولةَ، لأنّه لولا تدخل الدولة لظلّ ابن عقيل على نفس خطّه الفكريّ ممارساً لدرسه الفقهيّ وإقبال العلماء والعامة عليه، وربما كان لخطّه الإصلاحيّ شأنٌ آخر لو تُركت له المساحات دون إقحام قصر الخلافة.

ومن الواضح أن تدخل قصر الخلافة وصناعته محنة الرجل هو الذي ضخّم مقولاته؛ فابن عقيل نفسه درّس في جامع المنصور ببغداد خلفا لشيخه أبي يعلى الحنبليّ وتصدّر الجماعة الحنبلية، وكانت الأمور مستتبة لولا إقحام خصومه للسلطة السياسية في صراع الجماعة العلمائية؛ وهو ما نفصله فيما يلي:

لمّا مات الشيخ أبو يعلى -الذي كان ابن عقيل أحد تلامذته المخلصين- انفرد ابن عقيل بخلافته في مرجعية المذهب، لكن أحد تلامذة أبي يعلى النبهاء وهو الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي (ت 470هـ/1077م) -وهو الذي تولى غسل وتكفين أبي يعلى إشارة إلى كونه الأحقّ بميراث الشيخ العلميّ- لم يقبل بخلافة ابن عقيل لأبي يعلى.

وكان أكثر الحنابلة ينظرون بريبة إلى تصدر ابن عقيل بعد وفاة شيخهم، ودعموا تصدر الهاشمي فأصبح –بتعبير الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- “إمام الطائفة الحنبلية في زمانه بلا مدافعة”. وهكذا كان الموج عالياً أمام ابن عقيل فحال بينه وبين الانفراد بزمام المرجعية بعد وفاة شيخه.

وقد ساعد أبو منصور ابن يوسف (ت بعد 458هـ/1067م) -وهو تاجر حنبلي كبير ومستشار للخليفة القائم- ابن َ عقيل في التصدّر بعد أبي يعلى، وقدمه مُدرساً بجامع المنصور الذي كان يدرس فيه أبو يعلى، وتكفّل برعايته ماليا وحمايته مذهبياً وسياسياً.

يقول ابن عقيل عن نفسه في تلك الفترة حسبما نقله ابن رجب الحنبلي: “وأقبل عليَّ أبو منصور ابن يوسف فحظيتُ منه بأكبر حظوة، وقدّمني على الفتاوى مع حضور من هو أسنّ مني (يقصد منافسه اللدود الهاشمي)، وأجلسني في حلقة البرامكة بجامع المنصور لما مات شيخي (= أبو يعلى) سنة ثمان وخمسين [وأربعمئة]، وقام بكل مؤنتي وتجملي”.

 

استقطاب داخلي
كان من اللافت أنّ أكثر الحنابلة دعموا الهاشمي “الأصيل” حنبليا ضد “الدخيل” المذهبيّ ابن عقيل؛ وذلك لأسباب أهمها:
1- تمثيل الهاشمي للتراث الحنبلي؛ فهو أقرب علماء المذهب لإرثه الفقهي والعقدي، ولم يكن ناقداً لممارسات الحنابلية مثل ابن عقيل الذي اشتُهر بعقلانيته ونقده الذاتي المذهبي. أيضا فإنّ الهاشمي هو الممثل الحقيقي لمدرسة أبي يعلى المحافظة، والتي كانت تنتهج نهجاً متشددا تجاه المعتزلة والأشعرية، ومن ثمّ نُظر إلى ابن عقيل ذي النهج التقريبي على أنّه لا يُمثل مدرسة شيخه تمثيلاً حقيقياً.

2- شخصية الهاشمي المتشددة مذهبياً والتي لا تعرف أيّ تنازل للخصوم من خارج المذهب أو داخله، وكان شديد الوطأة على المخالفين يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفسه، وله دور كبير في ما سُمي فتنة الشيخ أبي نصر ابن القُشيري (ت 514هـ/1120م) -أو فتنة الحنابلة- سنة 469هـ/1076م، وقد مات فيها عدد من الحنابلة والأشعرية مما أدى إلى تدخل قصر الخلافة للإصلاح بين المتصارعين، وهو ما ساهم في تعزيز مرجعية الهاشمي عند الجماهير الحنبلية. ومن هنا ندرك بعض أسباب شدته تجاه ابن عقيل.

3- ممارسة ابن عقيل النقد الذاتي للداخل المذهبيّ؛ حيث هاجم ابن عقيل التزمت الحنبليّ تجاه الخصوم، وانتقد التحولات المذهبية لكثير من الحنابلة نحو المذهب الشافعي والأشعريّ لمـّا عظُم شأن المدرسة النظامية، واتهمهم بأنهم ما تحولوا إلا طمعا في المال والجاه؛ فيقول فيما يرويه عنه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: “ورأيت كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا، وتوثَّقـ[ـوا] بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العزّ والجرايات”.

وقد كان بإمكان ابن عقيل أن ينتقل إلى الأشعرية أو الشافعية إلا أنه كان حنبلياً مخلصاً، لكن مشروعه الحنبليّ كان وسيطاً بين خصوم المذهب والجناح المتشدد المهيمن فيه؛ مما قلل مرجعيته وموقعه داخل المذهب الحنبلي.

4- مما أضعف مرجعية ابنِ عقيل داخل المذهب تتلمذُه لمخالفي الحنابلة كبعض مشايخ المعتزلة، والشيرازيّ الشافعي الذي لا ينسى الحنابلة دوره في فتنة أبي نصر ابن القشيري، حيث كان ممن يحضر مجالس ابن القشيري بالمدرسة النظامية التي كان ينتقد فيها خصومه الحنابلة. وكانت بين الشيرازي والهاشمي معارك علمية كبيرة متعلقة بنفوذ مذهب كل منهما وموقعه في الساحة الفقهية؛ فيبدو أن الهاشمي رأى تتلمذ ابن عقيل على يدي خصمه خيانة له وللمذهب.

يبدو أن العامل الأكبر في الخلاف بين الهاشمي وابن عقيل كان يتعلق بالتصدر للمرجعية، والتحدث باسم المذهب بعد وفاة شيخهما أبي يعلى. وهذا الصراعُ على المرجعية يُذكّرنا بالصراع الذي دار بعد وفاة الحافظ ابن حجر بين بعض تلامذته، والذي انتهى إلى صراعٍ بين أَمْتنِ عالميْن في عصرهما: تلميذه المباشر الحافظ السخاوي (ت 902هـ/1496م) وتلميذه بالواسطة جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م)، وكان من أشهر الصراعات بين الأقران في تاريخ الإسلام!

وهذا الصراع بين العلماء على المرجعية هو جزء من تاريخ الأُمّة ويعكس الثراء الفقهي والعلمي، ويخدم تطور الدرس العلمي؛ وبالتالي فإنه يؤدي إلى نقاشات عميقة في مسائل بعينها، وإلى تصنيفات وردود على التصنيفات، وردود على الردود؛ مما يعد حافظة لتراث الجماعة العلمية، وسجلا حافلاً بما هو تاريخي وما هو فقهي، ومن ثمّ يساهم في فهم مسار الأحداث حينها علمياً ومجتمعياً.

 

تدخل سلطوي
بدأت محنة ابن عقيل علميةً باشتباك أقرانه من داخل المذهب معه بسبب زعامة الهاشمي منذ سنة 458هـ/1067م تقريباً، ثمّ بتدخل قصر الخلافة ووضعه ابن عقيل قيد الإقامة الجبرية بين سنتيْ 461-465هـ/1070-1074م، ثمّ باستتابته العلنية سنة 465هـ/1074م بمحضر من رموز السلطة وعلماء الحنابلة.

وهي الاستتابة التي حفظ لنا نصَّها ابنُ الجوزي في ‘المنتظم‘ نقلا عن خط ابن عقيل، ومما جاء فيها: “إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة والاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلافهم. وما كنت علّقته (= لخّصته) ووُجد خطي به من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، وأنه لا تحل كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده”.

لم تنظر السلطة السياسية حينئذ إلى الخلاف بين ابن عقيل وخصومه على أنّه أمر مذهبي خاصّ، بل حاولت توظيفه بغية تعزيز حضورها وهيمنتها على الشأن الديني. فكان الهاشمي مقربا من الخليفة العباسي القائم بأمر الله (ت 467هـ/1074م) وكانت بينهما قرابة، وحاول إدخال الخليفة في معركته ضد ابن عقيل ليكبحه عن “بِدَعه” المتمثلة في ترديد بعض مقولات المعتزلة والتعاطف العام مع الصوفية.

وفي نهاية المطاف أُجبر ابن عقيل وحُمل حملا على كتابة “توبة”، إلا أنّه واقعياً ظلّ على قناعاته حتى مات عليها؛ يقول ابن رجب الحنبلي في ترجمته له: “وذلك أنّ أصحابنا كانوا ينقمون عليه تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخيْ المعتزلة، وكان يقرأ عليهما علم الكلام سرّاً، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات؛ ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله”. فعبارة ابن رجب صريحة في أنّ “توبته” كانت ظاهرية وبضغط سيف السلطة المُصلت عليه!

ومما يؤكد ذلك هذه الواقعة التي يرويها القاضي ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م)؛ فقد قال في تفسيره ‘أحكام القرآن‘ (سورة التوبة/ الآية: 77): “كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن جَهِير (ت 493هـ/1100م)…،؛ فقرأ القارئ: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} وكنت في الصف الثاني من الحلقة، فظهر أبو الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بها، وكان معتزلي الأصول (= العقيدة). فلما سمعتُ الآية قلتُ لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة، فإن العرب لا تقول: «لقيت فلانا» إلا إذا رأته؛ فصرف وجهَه أبو الوفاء المذكور إلينا مسرعا، وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يرى في الآخرة: فقد قال [تعالى]: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه}، وعندك أن المنافقين لا يَرون الله في الآخرة”.

ثم إن عبارة ابن رجب صريحةٌ أيضا في منهج ابن عقيل التقريبيّ الذي “تأوّل بعض الصفات” على طريقة الأشعريّة، فهل هو فِعْلٌ تقريبيّ احتوائيّ لتيارات الأُمّة؟ أم هو نتيجة لتأثره بشيخه الشيرازيّ؟ ربما كلاهما. ولكن السؤال المهم هو: لماذا حسمت السلطة السياسية موقفها من ابن عقيل وتعاملت تعاملاً حازما مع أفكاره: حجراً وقسراً ومنعاً؟ وهل كانت السلطة السياسية حريصة على عقيدة أهل السنّة والجماعة.. أم إن هناك أسبابا أخرى جعلت السلطة تتبنى موقفاً متشددا تجاه ابن عقيل؟

افتراضات شارحة
هناك عدّة افتراضات يُمكن عبرها فهم موقف الدولة/قصر الخلافة منه:
1- موقف ابن عقيل السياسيّ: فنحن نلاحظ من ثنايا كلامه أنّ موقفه من السلطة السياسية ومن العلماء المقربين منها كان سلبياً، إذ إنه انتقد تحوّل علماء الحنابلة عن مذهبهم بسبب الطمع في المال والجاه، فهذا يُنبئ عن شخصية متمردة وجريئة، تسعى للإصلاح دون مواربة.

فابن عقيل يُحذّر -في كتابه ‘الفنون‘ حسبما ينقله ابن مُفْلِح الحنبلي (ت 763هـ/1362م) في كتابه ‘الآداب الشرعية‘- العلماءَ الذين يقتربون من السلطة؛ فيقول: “أكثر من يخالط السلطان لشدة حرصهم على تنفيق نفوسهم عليه بإظهار الفضائل وتدقيق المذاهب في درك المباغي والمطالب؛ يبلغون مبلغاً يغفلون به عن الصواب، لأنّ السلاطين دأبهم الاستشعار والخوف من دواهي الأعداء، فإذا أحسوا من إنسان تنغُّراً (= تنكُّراً) ولمحاً تحرزوا منه بعاجل أحوالهم، والتحرز نوع إقصاء فإنه لا قربة لمن لا تؤمن مكايده…، فإنّ للسلطان كنزاً لا يحب ظهوره إلى كل أحد”.

وعندما انتقد الغزالي المخالفين من الصوفية؛ قال فيما نقله عنه ابن الجوزي في ‘تلبيس إبليس‘: “وأنا أذم الصوفية لوجوه يوجب الشرعُ ذمَّ مَن فعلها، منها… [أنهم] يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبي الأموال”!!

وبعبارة لا لبس فيها؛ يبين ابن عقيل موقفه من الدولة والأمراء بقوله الذي حكاه عنه ابن رجب الحنبلي: “وتقلّبتْ عليَّ الدولُ فما أخذتني دولة سلطان -ولا عامة- عما أعتقد أنه الحق، فأوذيت من أصحابي (= الحنابلة) حتى طُلب الدم، وأوذيت في دولة النِّظام (= الوزير السلجوقي نظام الملك المتوفى 485هـ/1092م) بالطلب (= الملاحقة) والحبس، فيا من خِفْتُ الكلَّ لأجله لا تخيِّب ظني فيك”!

ومع ذلك يبدو أنه توفي راضيا عن هذا الوزير الذي ضيّق عليه؛ فقد نقل عنه الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- قوله فيه: “بهر العقولَ سيرةُ النظام جودا وكرما وعدلا، وإحياء لمعالم الدين، كانت أيامه دولة أهل العلم، ثم خُتم له بالقتل وهو مارٌّ إلى الحج في رمضان؛ فمات ملكا في الدنيا ملكا في الآخرة، رحمه الله”.

وموقفه المستقل عن السلطة هو الذي سمح له بالإنكار عليها كلما رأى منها انحرافا عما يعتبره الموقف الشرعي الصحيح؛ ولنستمع إليه وهو يقول للوزير ابن جَهِير في رسالة وجهها إليه سنة 488هـ/1095م منتقدا بعض الممارسات الخاطئة، ونقل إلينا ابن الجوزي نصها في ‘المنتظم‘: “لولا اعتقادي صحة البعث، وأن لنا دارا أخرى -لَعلّي أكون فيها على حال أحمدها- لمـَا بغّضتُ نفسي إلى مالك عصري…، لكن إذا تقابل دين محمد ودين بني جهير فو الله ما أزن هذه بهذه…؛ [فـ]ـاتَّقِ سخط الله فإن سخطه لا تقاومه سماء ولا أرض”!

2- قصر الخلافة وتصفية الحسابات: كان قصر الخلافة ميّالا كل الميل للخط الحنبليّ حينئذ، إذ كان ثمة تحالف بين الجانبين، وكان الخليفة القائم بأمر الله يُجلّ أبا جعفر الهاشمي، ولذلك أوصى أن يقوم الهاشمي بأمر غسله وتكفينه بعد موته؛ بينما كان أهل الرأي –خاصة الأشاعرة والشافعية- متحالفين مع الوزير نظام الملك.

وكان الخليفة ينظر بقلق إلى النفوذ الأشعريّ الشافعيّ المدعوم من الوزير، منتظرا الفرصة السانحة ليُحجّم تمددهم. وانتظارا لتحسّن الظرف السياسيّ؛ دعم الخليفة الخطّ الحنبليّ المحافظ ليضمن شرعيته في قلب بغداد. ولذا فإنّ إصلاحية ابن عقيل التي بدت وكأنها تواطؤ مع خصوم الحنبلية -من المعتزلة والأشعرية والشافعية- لم تقلق الهاشمي فحسب؛ بل ربما أقلقت الخليفة نفسه الذي كان حريصا سياسيا على تماسك المذهب الحنبليّ لموازنة نفوذ الوزير السلجوقي، علاوة على صلته الوثيقة بالهاشمي!

3- نفس ابن عقيل الأبية: فهو لم يكن ممن يتملقون بغية مال أو جاه، ومن ثمّ لم يرُقْ له القرب من قصر الخلافة كما فعل خصمه الهاشمي، رغم أن الأخير اصطدم بالسلطة في السنة الأخيرة من عمره (سنة 469هـ/1076م) خلال عهد الخليفة الجديد المقتدي بأمر الله (ت 487هـ/1094م)، وسُجن حتى مات متأثرا بمرضه في السجن.

ثم إن ابن عقيل عاش فقيراً بسبب محنته، خاصة بعد وفاة كفيله أبي منصور التاجر الحنبلي الكبير؛ ويقول عن نفسه الأبية حسبما رواه عنه ابن رجب الحنبلي: “وعانيتُ من الفقرِ والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى، ولا أزاحم فقيها في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة”.

مصير المشروع
لا يُمكن الزعم أنّ ابن عقيل أخفق تماماً في تمرير مشروعه؛ فقبل وفاته (سنة 513هـ/1119م) وُلد ابن الجوزيّ سنة 510هـ/1116م، وأنهى حياته إصلاحياً حنبلياً على نفس نهج ابن عقيل في العقيدة والوعظ، وإن لم يُصرّح بذلك؛ فتعززت مدرسة ابن عقيل الإصلاحية داخل المذهب الحنبليّ الذي كان آنذاك شديد المركزية.

وربما يفيد في ذلك تتلمذ ابن الجوزي على أبي الفضل محمد بن ناصر البغدادي (ت 550هـ/1155م) وهو أحد تلامذة ابن عقيل. ولا يخفى أنّ ابن الجوزيّ (ت 597هـ/1201م) من أكثر العلماء ذكرا لأقوال ابن عقيل، ولذلك قال ابن رجب -في ترجمته لابن الجوزي- إنه “كان معظِّما لأبي الوفاء بن عقيل”، وقال في ترجمته لابن عقيل إن “من معاني كلامه يستمد أبو الفرج ابن الجوزي في الوعظ”. بل إن سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) يفيدنا بدقة بحجم ما أخذ جدُّه من ابن عقيل؛ فيقول -في كتابه ‘مرآة الزمان‘- متحدثا عن كتاب ابن عقيل الضخم المسمى ‘الفنون‘: “اختصر منه جدي عشر مجلدات فرّقها في تصانيفه”!!

وقد فطن ابن تيمية إلى هذه الصلة الفكرية بين الرجلين فجعل الأشاعرةَ أقربَ إلى مذهب أحمد من ابن الجوزيّ وابن عقيل، حين قال في ‘درء تعارض العقل والنقل‘: “وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة، كابن عقيل وصدقة ابن الحسين (ت 573هـ/1177م وكان من تلامذة ابن عقيل) وابن الجوزي”.

ويسير ابن الجوزي على درب ابن عقيل فيُوجّه سهام نقده إلى علماء الحنابلة الجامدين في نظره، ممن يتعصبون لأحمد ويُصححون كل روايات المسند تعصبا، بل إنه انتقد الشيخَ أبا يعلى -أستاذَ ابن عقيل- بسبب جموده المذهبيّ. وقد أدى ذلك لاتهام ابن الجوزيّ -فيما بعدُ- بالمروق من المذهب؛ كما حدث من قبلُ مع ابن عقيل.

وقد خطا ابن الجوزي خطوات أوسع عندما اعتمدَ منهج التأويل الأشعريّ في آيات الصفات، فقرر قانونه الشهير الذي نص عليه في كتابه ‘فيض الخاطر‘: “التفويض للعامة والتأويل للعلماء”. وكأنه كان منشغلا ومهموماً بذلك الصراع الأبدي الحنبلي/الأشعريّ، فأراد أن يكون حلقة ربط والتقاء بين الجانبين فيما يمكن تسميته بتيار “الأشعرية الحنبلية”، الذي يبدو أنه تعدد المنتسبون إليه من الحنابلة -بعد رائده ابن الجوزي- حتى كان منهم نجم الدين الطُّوفي البغدادي الحنبلي (ت 716هـ/1316م) الذي كان ممن أخذوا عن ابن تيمية بدمشق.

وترجم ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) -في ‘شذرات الذهب‘- للطوفي هذا فوصفه بأنه “الحنبلي الأصولي المتفنِّن…، وكان مع ذلك كله شيعيا…، حتى إنه قال في نفسه [شعرا]:
حنبلي رافضي ظاهري * أشعري إنها إحدى الكُبَر”!!
وبعده يذكر الإمام السخاوي -في كتابه ‘الضوء اللمع‘- ضمن أعلام القرن التاسع الهجري/الـ15م من أسماه “الفقيه عمر المقدسي الحنبلي الأشعري (ت بعد 865هـ/1460م)”!!

ولا يبعد أن تكون نشأة هذا التيار الأشعري داخل الحنابلة هي التي مهّدت الأرضية لبروز ظاهرة “الحَنْبَشَة”، وهو نحت اشتقاقي من صفة: “حنبلي/شافعي”؛ أي علماء الحنابلة الذين تحولوا إلى المذهب الشافعي ذي الصلة الوطيدة بالعقيدة الأشعرية. ومن نماذج هذه الظاهرة أن ابن حجر حين ترجم -في ‘نُزهة الألباب‘- لمحمد بن أحمد بن خلف البَنْدَنِيجي (ت 538هـ/1143م) الملقب بـ”حَنْبشَ”، قال إنه “كان حنبليا فتحول شافعيا فلُقِّبَ بذلك (اللقب: حنبش)”!! ووفقا لما يبدو من معطيات كتب التراجم والطبقات عن العلماء المتحولين مذهبيا فإن الحنابلة كانوا أكثر أصحاب المذاهب انتقالا إلى الشافعيّة.

ومن منتقلي الحنابلة غير “حَنْبشَ” المذكور: أسعدُ بن أحمد الشيباني المعروف بابن البلدي (ت 601هـ/1204م) الذي أورد المؤرخ الصفدي (ت 764هـ/1362م) ترجمته -في ‘الوافي بالوفيات‘- فقال إنه “تفقه في صباه على مذهب أحمد.. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي”. وذكر ابن النجار -في ‘تتمة ذيل تاريخ بغداد‘- أبا القاسم عمر بن أبي بكر الدبّاس (ت 601هـ/1204م) فقل إنه “كان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وقرأ الكلام على مذهب الأشعري، وسكن المدرسة النِّظامية [ببغداد]..، وسمع الحديث الكثير..، وكان يتولى الإشراف على دار الكتب النظامية بالمدرسة”.

وحين ترجم ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- للإمام سيف الدين الآمديّ (ت 631هـ/1234م) وصفه بأنه “الفقيه الأصولي..، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها..، وبقي على ذلك مدة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي”. وأورد ترجمتَه الذهبيُّ -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- فقال إنه “العلامة المصنِّف فارس الكلام، سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي..، لم يكن في زمانه من يُجاريه في الأصليْن (= أصول الدين وأصول الفقه)”. وربما يُفهم من ربط ابن خلكان بين انتقال الآمدي إلى الحنبلية وإقامته ببغداد -وهي حينها معقل للحنابلة- أن تحوله المذهبي جاء مُواءمةً مع بيئته الجديدة، هذا مع تلمذته لبعض أئمة الحنابلة فيها.

لقد كانت محنة ابن عقيل ملهمة للداخل المذهبيّ ولخارجه على السواء، بيد أنّ التأثير الداخلي كان أعظم أثراً، إذ إن ذكريات محنة خلق القرآن الكبرى لإمام المذهب كانت لا تزال تؤثر في المخيال الحنبليّ، ومن ثمّ استمد ابن عقيل قوّته وأثره بعد وفاته من نفس المحنة التي تسببت في انزوائه وتراجعه ظاهرياً عن مقولات كثيرة له اعتقدها خشية من بطش مذهبي يستقوي بالسلطة.

 

ثمرات المحنة
لم تمرّ محنة ابن عقيل -التي تمثلت في اضطهاده علمائياً وسياسياً ونفيه ومنعه من التدريس- مروراً عابراً؛ إذ إنّه عكف على تأليف أكبر مُصنّف في تاريخ الإسلام حسب وصف كثير من العلماء، وهو كتاب ‘الفنون‘ الذي قال ابن رجب إنه بلغ “ثمانمئة مجلدة”، وقال الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “له كتاب ‘الفنون‘ لم يُصنَّف في الدنيا أكبر منه، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمئة”!!

لكنّ هذا الكتاب ما زال مفقودا، وقد عُثر على جزء صغير منه يدلّ على أهمية الكتاب وعبقرية صاحبه؛ ولعل ابن عقيل نافس به موسوعة أبي يوسف القَزْويني المعتزلي (ت 488هـ/1095م) في التفسير فإنه “جمع [فيه] كتابا بلغ خمسمئة مجلد”؛ وفقا لما جاء في ‘تاريخ الإسلام‘ للذهبي الذي يفيدنا بأن ابن عقيل كان معجبا بالقزويني وتفسيره، ولعل ذلك من بقايا تأثره بفكر المعتزلة.

على أن طبيعة تكوين ابن عقيل الموسوعية لا يستغرب معها مثل هذا الإنجاز العلمي المتفنّن، كيف وهو الفقيه المحدّث الذي كان يطالع كتب علوم الهندسة والفلك وينقل مضامينها دون ردٍّ لها؛ كما يفيدنا هذا النص الثمين بشأن مفاهيم مثل كروية الأرض وخط الاستواء، والذي خلده لنا ابن الجوزي في ‘المنتظم‘:

“قال أبو الوفاء بن عقيل: ونقلتُ من ‘كتاب الهندسة‘: ذكر علماء الهندسة أن الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعهـ[ـا] في جوف الفلك كالمُحّة (= صُفار البيض) في جوف البيضة…؛ والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو [يمتدّ] من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض”.

لقد تعلم ابن عقيل في محنته كيف يُجلّ العلم ويستغل كل لحظة في إفادة أو استفادة؛ فهو يقول عن نفسه كما نقله عنه ابن رجب: “إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، فإذا تعطل لساني من مذاكرة ومناظرة وبصري من مطالعة، عملتُ في حال فراشي وأنا مضطجعٌ، فلا أنهض إلا وقد يحصل لي ما أسطّره، وإني لأجد من حرصي على العلم في عشر الثمانين أشد مما كنتُ وأنا ابن عشرين”. وهذا شأن المصلحين دائما، أنهم لا يضيعون لحظة إلا في إفادة واستفادة.

ويبدو أنّ المحنة أثرت كثيراً في ابن عقيل، فلغته وأدبه وفقهه ونظرته للكون والدين والدنيا مختلفة عن غيره من العلماء، أو إذا شئت فقل إنّ هذا قانون الإصلاح، فالإصلاحيون دوماً هكذا لأنهم غالباً ما يتعرضون في حياتهم لعوائق ومشكلات لكونهم ضد العوائد ومعتقدات العامة.

ومن أقوال ابن عقيل في ذلك ما نقله عنه ابن مفلح في ‘الآداب الشرعية‘: “قال أبو الوفاء ابن عقيل في ‘الفنون‘: من صدَر اعتقادُه عن برهان لم يبقَ عنده تلوّنٌ يراعي به أحوالَ الرجال ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ﴾”؛ (سورة آل عمران/الآية: 144).

ورغم وطأة المحنة على ابن عقيل فإنه ظل منصفا لأصحابه الحنابلة ومعتزا بالانتماء إلى ركبهم، مع علمه العميق بتكوينهم النفسي والمنهجي؛ فها هو –فيما يرويه ابن رجب نقلا عن الحافظ ضياء الدين المقدسي الحنبلي (ت 643هـ/1245م)- يقول فيهم حين سُئل عن وصفهم بـ‘إنصاف‘: “هم قوم خُشُنٌ، تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المُداخلة، وغلب عليهم الجِدّ وقلّ عندهم الهزل، وغربت نفوسهم عن ذلّ المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم”.

والعجيبُ في أمر ابن عقيل أنّ الجماعة الحنبلية أهدرت دمَه ولم ينصره سوى القليل، ومع ذلك بقي اسمه ورسمه وبقيت محنته ملهمة تُتدارس، في حين اختفى خصومه وكَمُنَ ذكرهم، ولم تذكر المصادر أسماء معظمهم، ومات كثير من تصانيفهم.

بل إن السلطة اضطرت إلى الاعتراف بمكانته، فاستعانت به لحل كثير من الأزمات المجتمعية التي واجهتها كالفتنة الطائفية التي عصفت مجددا ببغداد سنة 482هـ/1089م “فقُتل فيها نحو مئتي قتيل ودامت شهورا”، بتعبير ابن الجوزي في ‘المنتظم‘؛ وكان لابن عقيل الإسهام الأعظم في احتوائها. بل وصل اعتراف قصر الخلافة به إلى حد أنه لما تُوفي الخليفة المستظهِر بالله سنة 512هـ/1118م “غسّله أبو الوفاء بن عقيل”؛ طبقا لابن الجوزي في ‘المنتظم‘.

وبقاء أثر ابن عقيل إنما يعكس شأن مقولات العلماء؛ فإنها لا يمكن الحكم عليها بعصر صاحبها فقط بل بعد موته بعقود وربما قرون؛ فكم من عالم ذاع صيته ثم خفت أثره ونُسي اسمه، وكم من عالم آخر نُبذ في حياته وارتفع شأنه بعد مماته. ويحدث ذلك فيما يمكن تسميته بعملية “الانتقاء” أو “الانتخاب الطبيعي”؛ فـ‘موافقات‘ الشاطبيّ (ت 790هـ/1388م) لم تُعرف وتشتهر إلا بعد موته بقرون على يد الشيخ محمد عبده (ت 1323هـ/1905م)، وكذلك مقدمة ابن خَلْدُون (ت 808هـ/1406م).

والحقيقةُ أن سبر تاريخ التيارات والمذاهب وعلاقتها بالسلطة السياسية وعلاقتها بعضها ببعض، أمر مهمّ جدا للمؤسسات الدينية والعلمائية المعاصرة، ولا غنى عنه لأيّ مشروع تجديدي وإصلاحي يُريد أن يتجاوز السلبيات التي وقع فيها السابقون. وكذلك ليُدرك الجميع صيرورة التاريخ وأنّ القضاء على الخصوم الفكريين بالاستعانة بسلطة لم ينجح أبدا في تاريخ الأفكار. ومن ثمّ فإن أيّ انتصار بسيف السلطة في عالم الأفكار هو انتصار لحظيّ ومرتبط بالسياق الاجتماعي والسياسي والديني، وأيّ نشوة له هي محض رؤية قاصرة لتاريخ الجماعات العلمية والتيارات الفكرية.

المصدر : الجزيرة
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار