وجوه من الغربة …. الدكتور جمال عثامنة

 

مع استدارة الطائرة نحو البحر , بدت أرض “الخبيزة والسماق والعكوب والزعتر”, مساحات خضراء  ممتدة باتجاه الأفق و مزركشة بألوان الطبيعة , على أديمها تناثرت القرى والبلدات والبيوت  الغافية فوق السهول والهضاب … ومن خلف هذا المشهد بدت تلال الجولان وهي تنحدر بشدة نحو بحيرة طبريا أو بحر الجيليل كما يحلو للبعض تسميتها أحيانا.

تميل الطائرة أكثر , فلا تبدو حينها إلا السماء زرقاء صافية تتخللها بضع غيوم شاردة في كل اتجاه.

لكن على الجانب الآخر كانت هناك يافا التي قذفها البحر في زمن عابر كزمردة على الشاطئ , وظل من ذلك الحين يغسل بموجه الهادر قدميها.

ها هي الطائرة اخيرا , تأخذ مسارها باتجاه الغرب تحلق أولى الأمتار فوق البحر , وكان الشاطئ الرملي المستقيم يبتعد عن مجال الرؤية حتى بدا كضباب سديمي يلوح من بعيد للشاب جمال عثامنة مودعا.

تلك الرحلة في الطائرة , شكلت لجمال  ابن الثامنة عشر , بداية مرحلة جديدة في حياته في غاية الاهمية والتميز , فالهدف واضح والطموح في أن يصبح طبيبا متخصصا في طب وجراحة العيون لا رجعة عنه.  وبدعم من أهله وذويه, معالمها وأهدافها بوضوح وثبات : طبيبا متخصصا في طب وجراحة العيون.

السعي لتحقيق هذا الهدف اكتسب قوة دفع من خلال دعم الأهل ومن التزام ذاتي بتحقيق عهد قطعه جمال على نفسه أمام والدته بان يصبح طبيب عيون يتولى هو معالجتها.

أما ” فرانكفورت ” المدينة الألمانية التي اختار جمال الدراسة في جامعتها , فقد بدت له كعالم آخر جمع بين قديم المباني ذات الأسقف القرميدية الحمراء و مبان أخرى حديثة  شاهقة الإرتفاع أخذت حينذاك تنمو في وسط المدينة  وعلى أطرافها كانعكاس لواقع المدينة العريقة كعاصمة اقتصادية ومالية لألمانيا.

لم يكن الشاب جمال عثامنة عند وصوله إلى بلاد غوتة ونيتشة وحيدا على الصعيد العائلي , فقد سبقه إلى هناك شقيقه الأكبر ولاحقا بقية الأشقاء ليصل عددهم إلى خمسة جاؤوا جميعا للدراسة في مختلف التخصصات الجامعية والمهنية والعلمية.

مع ذلك كان الإدراك بأن إتقان اللغة الألمانية هو مفتاح النجاح  في الدراسة  وفي التواصل مع المجتمع الجديد , مسيطرا على قناعات الشاب جمال الذي لم يضيع الوقت في الالتحاق بجامعته وبدء تعلم اللغة.

آنذاك وفي عقد الثمانينات من القرن الميلادي الماضي , كان المجتمع الألماني أكثر انفتاحا على الوافدين الجدد من طلبة ومهاجرين بما يحملونه من ثقافات متنوعة ومنابت عرقية مختلفة , ولم تكن هناك من وسيلة للتواصل والاختلاط مع المجتمع أفضل من التحدث إليه بلغته إن على المستوى الأكاديمي أو اليومي في الشارع والأماكن العامة وهو ما خفف على الطالب جمال عثامنة من صعوبات الغربة, بحيث نجح في تقسيم وقته بين الدراسة

 

الجامعية وحياته الاجتماعية مع محيطه الزاخر بالمعارف والأصدقاء.

سبع سنوات من الدراسة والجهد والمثابرة مضت سريعا ليتخرج الشاب جمال بعدها طبيبا من جامعة فرانكفورت منتقلا ودون تلكؤ أو ابطاء إلى مرحلة التخصص في طب العيون وهي مرحلة شكلت هذه المرة العاصمة النمساوية فيينا عنوانها الأساس.

كان التحاق الدكتور الشاب جمال عثامنة القادم من المانيا بالمستشفى الجامعي العام (AKH) في فيينا لدراسة تخصصه ,  بمثابة اختيار متبادل بين الطرفين.

فالمستشفى له تميزه ومكانته على الصعيد الأوروبي بل والعالمي , ولم يكن بالتالي من السهولة بمكان لطالب او راغب بدراسة تخصص ما , الالتحاق به ما لم يكن الطالب على قدر لا يستهان به من الكفاءة والمهنية والقدرة على إثبات الذات, وهو ما لاحظ المستشفى توافره عند الدكتور جمال عثامنة.

ستة أعوام أخرى من الجهد والمثابرة مرت على الدكتور عثامنة في فيينا , بات خلالها وجها مألوفا في أروقة وقاعات وغرف العمليات في المستشفى الجامعي العام وفي عموم المجتمع الطبي في المدينة , ليتخرج بعدها كطبيب متخصص في جراحة وطب العيون بتميز مهني وفق شهادة أساتذته وزملائه.

العودة إلى الوطن بما اكتسبه من علم ومعرفة, شكل للدكتور جمال عثامنة هدفا لما بعد التخرج.

وهكذا كان , حيث امضى الدكتور عثامنة سنوات ثلاث عالج خلالها الآلاف من أبناء مجتمعه وبلده قبل أن يشعر بحنين مفاجئ إلى فيينا التي تركت لديه انطباعات حسنة وذكريات جميلة لا تنسى.

عندما قرر الدكتور جنل عثامنة في نهاية عقد التسعينات من القرن الميلادي الماضي زيارة فيينا لأول مرة بعد مغادرته لها , لم يكن يخطر على باله أن  تشكل هذه الزيارة سببا في الاستقرار في المدينة  بعد دعوة وتشجيع له من بلدية فيينا ونقابة الأطباء فيها الحريصين على استقطاب الخبرات الطبية المتميزة سيما تلك التي أنهت دراستها التخصصية وخبراتها العملية في جامعات ومستشفيات فيينا.

بعد فترة من عمل الدكتور جمال عثامنة في واحد من  أبرز مستشفيات فيينا التخصصية , قاده تميزه وطموحه إلى تأسيس مركز متخصص في طب وجراحة العيون على مساحة إجمالية تفوق الألف متر مربع وبكادر من الأطباء والموظفين والمتخصصين ناهز الأربعين شخصا.

المركز تزايدت أهميته بعد نيله رخصة مزاولة العمل كمستشفى متخصص في جراحة وطب العيون , وهو ما جعل مراجعيه يتوافدون عليه حتى من خارج العاصمة النمساوية.

في جلساته الخاصة مع الأصدقاء والمعارف يردد الدكتور جمال عثامنة أحيانا عنوان قصيدة للشاعر محمود درويش :” أنا من هناك “, كأنه تعريف لا شعوري عن الذات … ذات المغترب الذي يبرز كنجم مضيئ في سماء الغربة , لكنه يبقى منتميا إلى هناك … هناك المكان والماضي والبدايات المفعمة برائحة البحر والبرتقال والزعتر وبكل المفردات التي اعطت للانتماء أعز وأنبل معانيه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
جديد الأخبار