التنوّع الأدبي والفكري في كتاب “شذرات نقدية” للناقدة صباح بشير
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
بادئ ذي بدء، أوّد أن أحيّي الكاتبة والناقدة الأستاذة صباح بشير على طاقتها الإبداعية وعلى نشاطها البارز المتميّز في نادي حيفا الثقافي الذي يجسده انتاجها الأدبي الوفير في مُدَّةٍ وجيزةٍ حيث تتصّف كتاباتها بالمتانة اللغوية والإنسيابية الأسلوبية التي حدت بنا أن نتناول كتابها “شذرات نقدية” بالدراسة والتحليل من منطلق أنها طرقت في هذا الكتاب أبوابًا متعدّدة ومتنوعة تمثلت في فصولٍ تمحورت حول مقالات وحوارات، وأعمال روائية وقصصية، وكتب بقراءة مختصرة، وأدب وأطفال ونصوص وأشعار.
وسأبدأ أولًا بمقال من الباب الأول للكتاب الذي يحمل عنوان “ما بين الكاتب والناقد والنص” حيث أَتَفقُ مع ما جاء في قول الكاتبة هناك أنّه “يتعين على الناقد أن يكون منفتحًا بآرائهِ، مستعدًا لتقويمها وتنقيحها من وقت لآخر، وأن لا يطلق أحكامًا متسرعة، دون الأخذ بالموازين الأدبية الصحيحة”. وهنا لا بُدَّ لي أن أُشير أنّ رأي الكاتبة في هذا الصدد إنَّما يتماشى مع ما يعرف في عالم النظريات الأدبية النقدية الحديثة بالنزعة التفكيكيّة أو التقويضيّة (deconstruction) للناقد الفرنسي جزائري الأصل جاك دريدا حيث تتضمن هذه النزعة أنّه مِن الممكن لعدد كبير جدًا من القرّاء أو النقّاد أن يقوموا بقراءة وتحليل أو تأويل أيّ نص بحرّية تامة معتمدين على وجهة نظر خاصة بهم دون أن يكون هناك توافق بين آراء كل منهم، بل يأتي كل واحدٍ منهم برؤية مختلفة وتحليل مختلف. وفي هذا السياق، وعلاوةً على ما أوردناه آنفًا فإنّ الناقد وبخاصةٍ الذي يتناول بنقدهِ عملًا سرديًا أو روائيًا كالذي تبحثهُ الناقدة صباح بشير في كتابها هذا – يتوجب عليهِ تحديد طرائق رسم الشخصية، إذ أنَّ هناك طرائق متميزة لتصوير الشخصية أو تشخيصها (characterization) وهي: الإخبار أو الطريقة التفسيرية أو التحليلية أو التقريرية أو التقديم المباشر. وعند هذه النقطة يتبادر الى أذهاننا ما ورد في دراسة الناقدة صباح بشير في الباب الثاني للكتاب عن الأعمال الروائية والقصصية بشأن مقالتها بعنوان: “واسيني الأعرج والعزف على وقع البيكادلي” حيث تشيد الناقدة بالطاقة الإبداعية الفريدة للروائي الجزائري واسيني الأعرج، مشيرة الى استرساله في وصف مشاعر الشخوص الوجدانية وتجلياتهم الإنسانية، ليقدِّم بناءً روائيًا زاخرًا بالمشاعر والإرهاصات والأحلام، والوقائع التي التقت بالخطوط الفنية والفكرية والسياسية والاجتماعية، والمحظور الاجتماعي، متحديًا الثابوات الاجتماعية والفكرية، منتصرًا لعازفة البيكادلي ولأفكارها وللحب وذلك متجسدًا فيما تورده الناقدة من الرواية (ص 53) حيث جاء هناك ما نصه: “مَن نصّبكم الهةً صغيرةً تحكم على الناس؟ لا دين للقلوب إلّا دين الحب، لو حلّلنا فصيلة دمكم لوجدناها خليطًا من الأتراك والأكراد والشركس والمسلمين والمسيحيين، وكل الذين مرّوا على هذهِ الأرض”. ومن هنا، وتعليقًا على هذهِ المعاني نقول بأنّ واسيني الأعرج يلتقي مع فكرة وحدة الوجود التي تبنّاها ونادى بها الشاعر الصوفي الكبير الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الذي آمن بمبدأ وحدة العقائد ومبدأ الحب بين البشر على اختلاف انتماءاتهم واطيافهم حين قال:
أدين بدين الحب أنّى توجّهتْ
ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وايماني
وتؤكد لنا الناقدة صباح بشير أنّ عازفة البيانو وبطلة الرواية “لينا” تتجلّى قوتها في شغفها للموسيقى “التي تجد فيها الملاذ الآمن من الواقع المرّ، فتحاول التغلّب على حزنها بالموسيقى، تجد فيها ملاذًا من الواقع المظلم، ووسيلة للتعبير وفهم ذاتها، فتعبّر من خلال العزف عن أحاسيسها”.
وهذه الكلمات التحليلية التي تتحفنا فيها الناقدة حول شخصية “لينا” العازفة الموسيقية، تقودنا الى تداعي الأفكار(association of ideas) فيما يتعلق برمزية الموسيقى في حياة بطلة الرواية، فالموسيقى بشكلٍ عام ترمز الى الإفتتان بالموت (fascination with death) ، فالبطلة “لينا” كبرت على وقع الرصاص ورائحة الدم بسبب الحرب الأهلية في لبنان، وهي ابنة عازف المسرح الأول “المعلم جوزيف” الذي اغتيل بيد قاتل مجهول، كذلك، فإنَّ العازف الموسيقي يرمز الى انسجام وتوافق مع الطبيعة الإلهية (harmony with divine nature)، وهذهِ الرمزية تتجاوب مع ما أوردته الناقدة حول المضمون العاطفة الذي وفقًا لقولها تتناول هذه الرواية الحب والفقدان بشكل تجعل القارئ يتعاطف مع شخوص الرواية. كما أنّه بالإضافة الى هذين الرمزين، علينا أن نذكر أن الموسيقى ترمز أيضًا الى العقل الذي يقويّ ويعزِّز العواطف العليا. ومن حيث أنَّ الناقدة تصف هذا العمل الروائي بأنّه حالة عاطفية وجدانية لامرأة تعيش تجربة عشق للموسيقى تفيض بالمحبة والحنين الى الزمن الجميل الذي غاب، فتستخدم الموسيقى كوسيلة للتعبير عن نفسها وتحولاتها العاطفية، فإننا نرى من هناك أنَّ آلة الموسيقى، البيانو، التي تعزف عليها “لينا” التي يمكن أن نصوّرها تخيّلًا في هذا الموقف كملاك هي رمز لمديح الرب، وعادةً ترتبط بالابتهاج (joy)، وبالجانب الأنثوي (the feminine).
وبانتقالنا الى رواية “الليلة الأولى” للأديب جميل السلحوت، كأحد نماذج باب الأعمال الروائية التي تتناولها الناقدة صباح بشير بنقدها إياها بقولها إنّها رواية تهاجم الجهل والتخلّف من حيث أنّ مؤلف الرواية يثير فكرة رجل (موسى) يواجه تحديًا نفسيًا يمنعه من ممارسة الحب مع زوجته في الليلة الأولى من زواجهِ وحتى عام كامل. ورغم كل محاولات ووسائل الشعوذة التي لجأ اليها أهل العروسين المشعوذة “مبروكة”، فإنّ كل المحاولات باءت بالفشل، مما جعل موسى يقرر الهرب والسفر خارج البلاد. وتشير الناقدة في دراستها الى نقطة مهمة في الرواية حيث تبيّن أن هذه الرواية لا توضِّح الزمن في أحداثها، أي أنها تدور في عالم غير محدّد الزمن والوقت، أو في عالم خيالي لا يوجد فيهِ زمن بشكل تقليدي. ولا بُدَّ لي هنا أن أضيف فكرة أخرى على ما أوردته الناقدة من أنّ أسلوب كاتب الرواية بعدم تحديد الزمن يقصد به خلق جو من الغموض أو الإحساس بالوحدة أو العزلة التي عاشها موسى، ولكني أود هنا أيضًا أن أطرح فكرةً أخرى بهذا الخصوص في أنَّ الزمن غير المحدَّد في الرواية يرمز الى العامل أو العنصر المُدّمِر (destroyer) والى كاشف الحقيقة (revealer of truth) والذي نلمسه عندما كشفت الشابة “غادة” الاعيب المشعوذ” “أبو ربيع” الذي كان يعاشر النساء بحجة طرد الجنّي الكافر من ارحامهنّ؛ وكل ذلك يكشف حالة الجهل المتفشية في أوساط هؤلاء الناس الذين يلجأون في مثل هذه الأوضاع البائسة الى الخرافات والغيبّيات التي لا طائل منها ولا جدوى إلّا الاستهتار بعقول الناس والحاق الضرر الفادح بهم.
ونستمر في مداخلتنا هذه مُتَخذين من مقالة (“بين مدينتين” – سيرة ذاتية مبهرة للأديب فتحي فوراني) أنموذجًا لباب (الكتب – قراءة مختصرة)، ففي هذه المقالة تشير الناقدة الى أن الأديب فتحي فوراني قد عبَّر في هذه السيرة الذاتية عن جوهر كيانه وأصالته، فهو – كما تقول الناقدة – لم ينفصل عن تجربته الإبداعية التي كانت جزءًا من تجربته الحياتية بأبعادها الفردية الاجتماعية والإنسانية، وقد وصل نبضه الإبداعي هذا الذي يمتاز بنزعتهِ الإنسانية الى القرّاء بأسلوب مُقنِع مؤثر.
وانطلاقًا من هذه الحقائق فيما يختّص بالسيرة العطرة للأديب فتحي فوراني، فإنني أوّد أن أؤكد ما ذكرته الناقدة في هذا الصدد، مضيفًا أنّ الأديب فوراني هو علم من أعلام الأدب وأهل الفكر، كاتب تحرير، ولغوي مُتضلِّع، واسع الإطلّاع، ذو كتابة خلّاقة، فيّاض القريحة، يُعَدّ من الأدباء المميزين، وأصحاب الملكة اللغوية. ولا ريب أنّ كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع الاستغناء عن الاطلّاع الواسع، فكل رواية، واحيانًا كل كلمة، لها قيمتها في تجلية السيرة التي يريد أن يكتبها، وهذا ما تحلّى بهِ الأديب فوراني في كتابة سيرتهِ الذاتية هذه التي امتازت بيقظته الذهنية المستمرة المشفوعة بإرهاف خاصة في التميّز والحدس والترجيح والتجرّد في الحكم والصدق في الخبر، وبالتالي أقام سيرته في بناء فني، لم يغفل فيه قيمة الأسلوب وتأثيره، وكان ماهرًا في الربط بين الصورة الداخلية لحياتهِ ومنعكساتها في الخارج.
ونختم أخيرًا بالباب الأخير (نصوص وأشعار) في مقال (“فلسفة المتأمل وشجن الإنسان في ديوان “صبا الروح” للشاعرة سلمى جبران) حيث ترى الناقدة صباح بشير أنَّ الرؤية العامة لهذهِ المجموعة الشعرية تتمثل في بعدين رئيسيين هما:
البعد الفكري الفلسفي، والبعد الاجتماعي الإنساني، وتؤكد انسجامهما معًا انسجامًا تامًا، وبالتالي تتحدث الناقدة عن العمق الفكري في العديد من القصائد مدّعمة تحليلها بإيراد آراء الفلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو، متابعةً التعرض الى قضية المرأة والمجتمع الأبوي والفكر الذكوري في شعر مجموعة سلمى جبران، وكون المرأة في رأيها قد أثبتت قدرتها على مواجهة التحديّات رغم أنَّ صورتها ما تزال أقل شأنًا من صورة الرجل في كل المجتمعات الذكورية، إذ تأتي الناقدة بطروحات أديبات ومفكرات مثل: د. نوال السعداوي، فرجينيا وولف، وسيمون ذو بوفوار؛ وتخبرنا الناقدة أنّ الشاعرة سلمى جبران تتطرق أيضًا الى ظاهرة الجهل المجتمعي ودوافعه، كما أنّه من منظور الناقدة تبحر الشاعرة عميقًا في رحلة مع الذات، فتكتشف عبثية الحياة، والى عالم العبثية، وكون الشعر حالة إبداعية حرّة تنقل فكر المبدع ورسالته. ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أنّ الناقدة ترى بأنّ بعض قصائد الديوان تقدم صورًا كفكاوية لتظهر المفارقة الوجودية والعبثية من الأفكار التي تجسِّد المعنى الفلسفي وتخاطب عقل ووعي المتلقي، كما تبيِّن الناقدة أنَّ للحب حضورًا في الديوان، فتمنح الشاعرة للعشاق طاقةً واقبالًا على الحياة.
وبعد كل هذا الحديث النقدي للأستاذة صباح بشير حول ديوان الشاعرة سلمى جبران الذي تصفه الناقدة بأنّه ينطوي على قدر من الصور الحيّة بأصواتها وايقاعاتها، وتسير بين فلسفة التأمل، وشجن الإنسان، وتدعو الى التمرّد على السكون والركون الى العتمة، والى التحرّر من القيود، والى تحرير النفس وانطلاق الروح لتلج الى عوالم الروح، فإنني أرى واعتقد أنّ الناقدة صباح بشير قد أبلت بلاءً حسنًا، بل إنّها اصابت واحسنت التحليل النقدي لمجموعة الشاعرة سلمى جبران، إلّا أنّه أوّد أن أشير الى أنّه كان من المحبّذ للناقدة عدم المغالاة في استخدام الكثير من الاقتباسات الفلسفية لكبار الفلاسفة والمفكرين لتدعيم افكارها وآرائها النقدية للديوان حيث أسوق هذه الملاحظة تفاديًا وتحسُّبًا مِن قيام بعض المشاكسين بإتهام الناقدة بالحشو (padding) أو الإطناب، مع أنني أُكبِر وأبارك هذه الثقافة الفكرية الفلسفية الثريّة المُشرقة للناقدة.
وختامًا، نكتفي بهذا القدر من هذهِ المختارات من أبواب الكتاب “شذرات نقدية” حيث عالجت الناقدة الأستاذة صباح بشير موضوعات فكرية وأدبية، ووجدنا في نقدها توجهًا أدبيًا حديثًا انسانيًا يتسِّم بعمق ثقافتها واتساع أفقها الفكري الذي يمتاز بعدم الخروج بالفكر عن المعقول، فتمنح موضوعاتها النقدية من نثر وشعر قيمة إنسانية ذات صورة حرّة، لا تتقيّد بالصياغة القديمة ولا بنقوشها الزخرفية، إنّما تتقيد بأداء المعاني في عباراتها الصحيحة التي تستوفيها. فلها منّا أصدق التحيات واطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من العطاء والإشراق.