“يا فرحة ما تمّت“
حسن عبادي (القدس/ حيفا)
قرأت رواية “ذاكرة في الحَجْر” للإعلامية كوثر الزين (الصادرة عن دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع/ عمان) من خلال مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسيّة بإدارة الروائيّة ديمة جمعة السمّان.
تتناول الرواية مسألة اللجوء والغربة في الوطن وخارجه، أحلام اليقظة واليقين، والحـرية المفقودة والمنشودة، والوهم والخذلان سيّد الموقف.
تتناول الربيع/ الحلم العربي الذي صار بين ليلة وضحاها خريفاً قاتلاً لكلّ من آمن به وعوّل عليه، ولكن هيهات، يا فرحة ما تمّت.
حلم “عربي” (اللا بطل الرواية) وأمِل بمستقبل أفضل بعيداً عن أهله وبلده ولكن خابت آماله وتحطّمت أحلامه عبر البحار.
ذاق عربي الأمرّين في بلده؛ غريباً في وطنه، تلازمه معاناة والده المثقّف واعتقاله وتعذيبه بسبب مبادئه ومواقفه، وورّثه أبوه اسمه وتاريخه النضاليّ ومكتبة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولازمته الوِرثة كشبهة/ تُهمة/ وصمة عار.
عربيّ جامعيّ، يحمل شهادة الماجستير في هندسة الحاسوب، مع خبرة وتجربة في مجاله، من بلد عربيّ، حلمه الهروب من بلده إلى الغرب طالباً الأمان الشخصي، مثله مثل الملايين من المتعلّمين والحرفيّين الذين رحلوا عن أوطانهم ممّا أدى إلى تفريغها من الطبقة الوسطى ليعيدوا إعمار الغرب الاستعماري، أيادي عاملة وعقول رخيصة، فنلاحظ أنّ غالبيّة من يهاجرون من البلدان العربية هم “من يفكّون الحرف“، بعقولهم أو أياديهم.
يُعتقل عربي ويُعذّب، يُفرج عنه ويبدأ بالتخطيط للهرب من بلده، ومعه وِرثته، كردان (قلادة ذهبيّة/ مصاغ) أمّه، رابطه الوحيد مع ماضيه، وفي طريقه يقع في مخالب داعش، فاستغل علمه (الحاسوب) وثقافته الدّينية ليصير (أبو مسلم) ونائب أمير الجماعة، ويحظى بجيلان/ سبيّة إيزيديّة، لكنه خاواها، حافظ عليها وهرّبها وأعادها إلى أهلها لتحقّق حلمها بالحرية، ومن بعدها اللجوء إلى أوروبا التي صارت الحلم العربي.
تصوّر الكاتبة درب الآلام التي يمر بها عربي أثناء الهروب من بلده عبر البحار والمخاطر حتى يصل إلى مارسيليا الفرنسية ومن ثم إلى أحضان (أوود)، ولكن فرحته لم تتم، إذ يفقدها إثر مرضها بالسرطان.
يلجأعربيإلى “الحِكمة العربية” فيشتري الخلّ بكميّات لإيمانه بأنّه سيقيه من بلوى الكورونا، ولكن غاب عنه أنّ الكلّ مراقب في أوروبا، والكاميرات في المتجر صوّرته مما أثار الشبهات، فالعربي مشتبه به أينما كان، فيعتقل من جديد ويخرجون الدفاتر القديمة، حيث كان (أبو مسلم)، تهمة تلاحقه وتلازمه كلّ الوقت.
حمل عربي وصيّة والده: ” كن أبيّا يا عربي وإيّاك أن تستسلم، إنّ البحر يحبّ الأُباة” (ص81)، ووصيّة والدته: “احذر السياسة يا عربي… السياسة خراب بيوت“.
تناولت الكاتبة وسائل وطرق التعذيب داخل المعتقلات، وأخذتني مجدّداً لما أسمعه من الأسيرات والأسرى الذين ألتقيهم في سجون الاحتلال، فيبدو أنّ الساديّة واحدة موحّدة في كل بقاع العالم: “كلاب جائعة لاستفتاح الحفلة ولعقِ عصائر النزيف… عِصِيّ غليظة لهشاشة العظام… حبالٌ لتعليق الجلود الممزّقة بالسياط، ودواليبٌ لطيِّها… كلاليب للأظافر… شَبحٌ للسهر… بُصاق وأكفّ غليظة للصحو… مسامير وسجائر مطفأة للكلام… أسلاك مكهرِبة، تجوس بين السُرّة والفخذين لامتحان الرجولة… صيام للنهارات والليالي، ينتهي بربع رغيف عفن، وطاسة ماء صدئة… وقتلى بلا جنازة… لكنّني نجوت” (ص31).
تناولت الرواية نساء/ بطلات كُثر، كلّ ودورها؛ تيماء (شبيهة والدته) التي اختارتها له أمّه لتكون شريكة حياته ولكن الفرحة ما تمّت، تالا الجامعيّة التي تشدّقت باليسارية لتحط ترحالها بحضن زوج برجوازي رأسماليّ لتطلّق المبادئ مقابل حفنة من الدولارات، جيلان التي نجحت، بمساعدة عربي، بالهروب من براثن الدواعش وتتزوّج من حبيبها الأول ليمرض ويموت بعد سنوات قليلة في الغربة، وأوود الملائكية التي مثّلت حلم الشاب العربي الذي يطمح بالحصول على الإقامة في بلد أجنبي عبر حضن فتاة غربيّة.
صوّرتالكاتبةبحرفيّةالحربوويلاتها،والابتزازالذييتعرضلهضحاياهاالمنكوبين،أينماكانوا.
من خلال قراءتي في السنوات الأخيرة وجدت أن موتيفاً مركزيّاً في الكثير منها يتمحور في حلم الهجرة من البلد، بغضّ النظر عن هويّة الكاتب؛ وجدتها في روايات الروائي العراقي علي بدر، الروائي التونسي شكري المبخوت، الروائيين الأردنيين قاسم توفيق وزياد محافظة، الروائية الكويتية بثينة العيسى، الروائيين الفلسطينيين سامح خضر وعاطف أبو سيف وصديقتي الكاتبة باسلة الصبيحي.
صوّرت الكاتبة درب الآلام ورحلة الهروب من معسكرات التعذيب داخل الوطن إلى أوروبا المنشودة عبر البحار، وحين قرأتها تخيّلتني أُعيد قراءة رواية “زهور تأكلها النار” لأمير تاج السر، ورواية “اغتيال الرحيل” للكاتبة باسلة الصبيحي أو رواية “حقيبة من غمام” للكاتب محمد عبد السلام كريّم التي تناولناها في ندوة اليوم السابع.
الكاتبة واسعة الاطلاع، ولغتها شاعرية، ولكن نعمة اللازورد الدرويشيّ تتحوّل إلى نقمة حين الإفراط باستعمالها، وكذلك الإستبرق وغيرها.
راق لي تصويرها للأماكن عبر أدب رحلات عربي وأوود؛ تأخذنا لجولة سياحية لنزور حي لوبانيية وساحة لانش في مارسيليا، مدافع سيزار ونافورة سان ميشيل ونشطح في معالم باريس وبناية المعهد العربي هناك لتُنصف المهندس جان نوفيل الذي خطّط عمارته.
وكذلك سخريتها السوداء حين تناولت ازدواجية المعايير الغربية (ص.107).
وعذريّة الفم والجسد (ص. 51، 88)؛ نعم، عقليّة الشرقي تسمح له بتقبيل، وحتى ممارسة الجنس، مع عشيقته ولكنها لا تصلح للزواج لأنها فقدت عذريّتها… معه!
لا شك أن الكاتبة مثقّفة ولكننها أقحمت شوبان ورقصات الشموع (رغم روعتهما) وكان أكثر وقعاً لو ذكرتهم مرّة واحدة بدل التكرار، وكذلك الحال مع ال(شيزوفرينيا) وال(إيزوتيريك) وطقوس التنفّس العميق للاستعاضة عن الطعام بالطاقة الكونيّة (ص. 31).
سافر عربي ساعات ليشارك حفل إطلاق كتاب “غرق الحضارات” للروائي والكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف ولكن فرحته لم تتم ولم يحضر الحفل…
أشارت الكاتبة إلى كتاب بعنوان “تجارب الموت الوشيك” للكاتبة كورازا أورنيللا (ص. 159)، وتساءلت بيني وبيني، هل قصدها كتاب “تجارب اقتراب الموت: استكشاف الصلة بين العقل والجسد“؟ ولم أفهم كنه إقحامه؟
نعم؛ الصمت موت… كلّنا سنموت ذات يوم بشكل أو بآخر… أشرف لنا أن نموت شهداء حقيقة ونحن نهدم ممالك الصمت.
ويبقى السؤال: لماذا أغضبتِ جيلان حين استبدلتِها بماشو (ص. 45)؟
*** مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسيّة يوم الخميس 05.09.2024