الدادائية والسريالية عند الشاعر اللبناني أنسي الحاج
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
قبل البدء في الحديث عن الشاعر أنسي الحاج، من المهم أن نشير الى تعريف وخصائص هذين المصطلحين الواردين في العنوان أعلاه وهما الدادائية والسريالية حيث أنّ الدادائية أو الدادية (بالإنجليزية Dada) هي حركة ثقافية انطلقت من مدينة زيورخ في سويسرا كنوع من معاداة الحرب، أثناء الحرب العالمية الأولى، ومؤسسها مارسيل يانكو (Marcel Hermann Iancu) (1895-1984) وهو فنّان تشكيلي ومهندس معماري روماني ومن دعاة مذهب البنائية في أوروبا الشرقية. وهذه الحركة تعتبر من أكثر الحركات الفنيّة غرابةً في القرن العشرين فنًا وشعرًا ومن ابرز شخصياتها سلفادور دالي. والدادائية تهدف الى العبثية والتقويض واللاعقلانية المفرطة والتدمير. ومن المفارقة أنها نشأت بعد ويلات الحرب العالمية الأولى. وقد دامت هذه الحركة مدة ست سنوات، وولدت منها الحركة السريالية (surrealism)، وبينما يُنظَر الى الدادائية كحركة متمردة، فإنّ السريالية يُنظر اليها بكونها مناوئة للبرجوازية، وحيث أنّ معناها هو (فوق الواقع) إلّا انّها جاءت بعد انجذابها نحو الموت ولكنها ضد الإنتحار.
وقد كان السرياليون منغمسين فيما هو غريب وعجيب، وقد اعتمدوا على اللاوعي والعقل الباطن.
وبعد هذه المقدمة الموجزة عن الدادائية والسريالية ننتقل للحديث عن الشاعر اللبناني المعروف أنسي الحاج (2014-1937) الذي ساهم عام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة “شعر”، وقد أصدر عام 1960 ديوانه الأول بعنوان “لن”، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.
وله العديد من الدواوين الشعرية، ويُعدّ من روّاد “قصيدة النثر” في الشعر العربي المعاصر. وقد أصبح أنسي الحاج مشهورًا باعتباره شاعرًا وناقدًا غير تقليدي. وقام بترجمة كثير من النصوص الى اللغة العربية لشعراء فرنسيين ومن أشهرهم “آرتور ريمبو” “واندريه بريتون” (Andre Robert Breton 1896-1966) الكاتب والشاعر الفرنسي الذي كان مناهضًا للفاشية. وهو أحد البارزين في تأسيس السريالية، فقد عُرِف بأنّه قائدها ومن كبار المنّظرين الرئيسيين لها والمدافعين عنها.
وقد رأى أنسي الحاج في قصيدة النثر الفرنسية مُلهِمًا له يستوحي منها كمصدر ثري في انتاجه الشعري الذي اتسّمَ برفضه التقليد الشعري الكلاسيكي. فهو يرى في قصيدة النثر الشكل الأفضل للتعبير عن الرؤى الجديدة للحداثة، فلقد اعتقد أنَّ الشاعر يجب أن يتحرّر من التركيب الموسيقي بشكله القديم، وذلك كي يتسنّى للشاعر أن يعبِّر عن رؤياه لهذا العالم المتغيِّر بتشظياتهِ وما فيهِ من قلق وحيرة.
ويعتقد أنسي الحاج أنّه بفقدان القصيدة للايقاع الخارجي الذي يوفره لها الوزن والقافية أي البحر العروضي، يتم تعويضه بالايقاع الداخلي أي الموسيقى الداخلية من خلال الوحدة العضوية الداخلية للكلمة مازجةً الصوت بالدلالة. وفي القصيدة التالية من الديوان الذي يحمل عنوان “الوداع” نلمس فيها الغرائبية من خلال دادائية أنسي الحاج شكلًا ومضمونًا التي تطوّرت الى سريالية يخرج فيها على التقليد حيث يقول:
“كم أريتكَ أنّه لا يخفي شيئًا هذا التمثال أضعُ يدي الهادئة على صدرك، أيها الصوت الحقيقي كل دعاءٍ عاصفةٌ حاجزٌ وموت، وأنا لأذكّر الناسين بالفراق وانتهك احزانه، الامر تبرتي. وأيضًا أهشّم خطواتي وظلّها السبّاق.
طاب ليلك أيتها اللازمة
الببغاء!
أطاردُ هذا الحبّ
أطاردُ هذا الحبّ
حربُ الجيوش تولد في ورق المال وحربي
فوق العالم تشدّ اطرافه
وتسعّت قلبه، ليَ مع السماء زوج كلمات!
ستنزاحين ويرون قوالب
الدم، لأنني أعرف عقولهم – لقد غيّرت لهم
نَعْلَ الشرّ!
ألاحقُ امرأةً الى جدارٍ يُحطِّمُني وتنتصر..
آه ! نسيتُ:
أُهَرِّبُ هدفي، وأصل قَبلَه !..”
وهكذا، نرى أن أنسي الحاج يواصل دوره في هذا النمط والنهج في الكتابة متعمّدًا الإطاحة بالقيم التقليدية، وتحطيم قواعد الكتابة الكلاسيكية، فهو يجمع ما يبدو صورًا غير منطقية تثير التعقيدات لحاضرٍ مضطرب باستخدامهِ اللغة والنزعة السريالية التي تعكس وتصوِّر حياة القلق التي تساور الشاعر.
ومن الطريف أنّ شعراء السريالية المتولدة من الدادائية كأنسي الحاج يبادرون من يزعم أنه لا يفهم أشعارهم بأنه لا ضرورة في ذلك، بل يطلبون منه، وهذا المهم لديهم، أن لا يفهم القارئ أو المتلقي ما يقصده الشاعر السريالي بل يُطلَب من هذا القارئ ان يُؤوِّل إحساس الشاعر عندما كتب كلمات القصيدة. ويمكننا تأسيسًا على هذا المعنى بذلك المنظور السريالي المنبثق من الدادية أن نسوق نموذجًا لهذه الرؤية الغرائبية المتلاعبة بالكلمات لتقويض أو تفكيك اللغة واعادتها من جديد وكأنّ الشاعر يلعب بكلمات قصائده بما يشبه الصور المتحركة، وتتجلى هذه الأمور في ديوان أنسي الحاج المعنون بِ “ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة”.
حيث ورد في قصيدة هناك:
قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا
اصبروا عليَّ لأجمع نثري
زيارتُكم عاجلة وسفري طويل
نظرُكم خاطف وورقي مُبَعْثرَ
محبتكم صيفٌ وحُبّىَ الأرض
مَنْ أُخبر فيلدني ناسيًا
إلى مَنْ أصرخ فيعطيني المحيط؟
صار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صارت لغتي كالشمع واشعلتُ لغتي،
وكنتُ بالحبّ
لامرأةٍ أنهَضتُ الأسوار فيخلو طريقي اليها.
جميلةٌ كمعصيةٍ وجميلةٌ
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرة شاردة ومُخَّمرة في الكرْم
ومَنْ بسببها أُجليتُ وانتظرتُها على وجوه المياه
جميلةٌ كمركب وحيد يقدِّمُ نفسه
كسريرٍ أجده فيذكرّني سريرًا نسيتُه
جميلةٌ كنبوءة تُرسل الى الماضي
كقمر الأغنية
جميلةٌ كأزهارٍ تحت ندى العينين
كالشمس تدوس العنب
كعنبٍ كالثدي
كعنبٍ ترجعُ النارُ عليهِ
كعروسٍ مُختبئة وراء الأسوار وقد ألقت عليَّ الشهوة
جميلةٌ كجوزةٍ في الماء
كعاصفةٍ في عطلة
جميلةٌ أئتني
أتت إليَّ لا أعرف أين والسماء صحو
والبحر غريق
مِن كفاح الأحلام أقبلتْ
من يناع الأيام
وفاءً للنذور ومكافأةً للورد
ولُمعّتُ منها كالجوهرة
سوف يكون ما سوف يكون
سوف هناك يكون حُبنّا
أصابعه مُلتصقة بحجار الأرض
ويداه محفورتان على العالم.
أُنقلوني الى جميع اللغات لتسمعي حبيبتي
أُنقلوني الى جميع الأماكن لأحصرَ حبيبتي
لترى أنني قديمٌ وجديد
لتسمعَ غنائي وتطفئ خوفي
إنّ في سريالية أنسي الحاج في هذه الأنماط من قصيدة النثر تقويضًا للموروث كما يُلاحظ دون أدنى شك، وهنا نجد أنَّ هذه الأنماط من الدادائية المولودة بطبيعة الحال لهذه السريالية، تختلف اختلافًا بينًّا عن الرمزية التي تتميّز بالانزياح أي بالصور الفنيّة والإستعارات، والتي نفتقدها هنا في الشعر السريالي من حيث دلالتها ومعانيها. وخلاصة القول أنَّ أنسي الحاج كشاعر يتخِّذ من هذا الفن طريقًا فيه معاناة إنسانية، فلا بُدَّ لديه أنّه بعد مخاض هذه المعاناة هناك ولادة، وبالتالي، فإنَّ هذه الدادائية والسريالية تمهِّد لشعرائها بأن يتصّفوا بكونهم ليسوا فجائيين.