لكلّ طقوسه في القراءة؛ بدأت بقراءة رواية “منزل الذكريات” لصديقي المقدسيّ محمود شقير ( رواية قصيرة، 182 صفحة، صورة الغلاف: Valentino Sani/ Trevillion Images تصميم الداخل: ماري تريز مرعب، تحرير ومتابعة نشر: روان عز الدين، إصدار: نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان، بيروت) حين استلمت نسختي في معرض الكتاب بعمان، ووجدتني أقرأ 5-6 فصول منها وأعيد قراءتها ثانية، وحين أنهيت قراءتها كاملة عدت لقراءة رواية “الجميلات النائمات” للروائي الياباني ياسوناري كواباتا (ترجمة ماري طوق) ورواية “ذكريات غانياتي الحزينات” للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (ترجمة صالح علماني) (وليست الطبعة التي ترجمها د. طلعت شاهين تحت عنوان “ذكريات عن عاهراتي الحزينات” التي اعتمدها الكاتب)، وأعدت قراءة الرواية ثانيةً.
يتناول كواباتا قصة العجوز إيجوشي الذي يدخل منزل الجميلات النائمات لقضاء ليلة بجانب فتاة نائمة بفِعل التخدير ليستعيد شبابه، عبر استعادة ذكرياته مع “نسائه” (أمه وابنته وأخريات مررن في حياته)، من خلال شريط يمرّ في مخيّلته، يصوّر مشاهد وذكريات ومشاعر وحبّ وجنس ومخاوف وفقدان، يقضي بجوارها خمس ليالٍ تنتهي بموتها المفاجئ، نعم، تموت هي الفتاة اليانع في عمر الزهور وهو يراقبها من شرفة عمره. رواية وجدانية مشوّقة جعلت ماركيز يقول إنّها الكتاب الوحيد الذي تمنى لو كان كاتبه.
بينما يتناول ماركيز قصة صحفي عجوز تسعينيّ يقرر أن يحتفل بعيد ميلاده التسعين بممارسة الجنس مع عاهرة شابة، يجد ضالّته في شابة تعرض عليه فكّ عذريّتها مقابل مبلغ من المال لتعيل عائلتها الفقيرة، يوافق على الصفقة ولكن حين ينوي مضاجعتها يكتشف مدى إعجابه بها وحبّه لها ممّا يُفسد نيّته بممارسة الجنس معها لأنّه اكتشف قيمة النساء اللاتي كان لهنّ الأثر البيّن في حياته على مر السنين.
وها هو بطل الرواية، محمد الأصغر، عجوز طاعن في السن، قد فقد زوجته سناء التي ماتت بعد أن فتك بها كوفيد 19 على حين غرّة، يشعر بالوحدة وترافقه مع كل فنجان قهوة، وفي غرفة نومهما، في صحوته ومنامه، سهراته وجولاته، يصطحبه رهوان إلى بيت للدعارة تديره فريال، لتقدّم له سميرة، عشرينيّة مزيونة، وتوصيها “اذهبي يا أمّورة إلى السرير واخلعي فستانك ونامي“، وناولها حبّة دواء من جيبه، أخذتها وابتلعتها في الحال ثمَّ انسلَّت إلى غرفة النوم… خلع ملابسه في تهيّب وحياء، واضطجع إلى جوارها… يتأملها… وبعد حين فاجأته قائلة بفتور: “ما نمت ولا دقيقةً واحدة. أكيد حبّة المنوِّم مغشوشة. ولازم تنتبه في المرّة القادمة“.
طيف سناء الراحلة يلاحق محمد الأصغر ليل نهار، في حلمه وعلمه، ولكنّه يتمادى في أحد أحلامه وشطح مع أسمهان/ جامعة التبرعّات ليكتشف لاحقاً أنّ أحلامه باتت “مفضوحة” وهناك من يتتبّعها ويقرأها ويكشف سرّها، ويفكّ جميحان (أخو أسمهان) شيفرتها فيُرغمه على الزواج منها، ويتسلّط الأزعر على حياتهما، ممّا يضطره أن يشكوهما لأصدقائه في سهرة متخيّلة جمعتهم معاً: “شكرت العجوزين على كلامهما الظريف، ثم شكوت لهما من العسف الذي ألقاه من جميحان وأتباعه من الزعران الفالتين الذين لا يردعهم أي عرف“. (ص.102) ويتبيّن أن الاحتلال أساس البلاء.
قرأت الكثير من كتابات شقير، ومنها “ثلاثيّته” فرس العائلة، ومديح لنساء العائلة، وظلال العائلة، ووجدت في روايته عصف ذهني من على شرفة العمر يجمع فيه كواباتا وماركيز وأبطالهما مع أبطال رواياته (عائلة العبداللات، محمد الأصغر والقنفذ ورهوان وفريال وسميرة)، والقدس حاضرة، ويضمّ إليهم ابن قيّم الجوزيّة وكتابه “أخبار النساء” ومقولته: “إنْ لم يكن العشق ضرباً من السّحر، فإنَّه لسعةٌ من الجنون“، وابن قتيبة وكتابه “النساء” ومقولته: “قيل لأعرابيّ: من أنت؟ فقال: من قومٍ إذا أحبّوا ماتوا. فقالت جاريةٌ سمعتْه: عذريٌّ وربّ الكعبة!”، ومحمد الأصغر هو المضيف (كأنّي به محمود شقير)، وكم حسدتهم على هذه اللمّة وكم تمنيّت أن أكون برفقتهم في أحلام النوم وأحلام اليقظة لتتداخل ولتتشابك معاً، بين الحقيقة والمتخيّل، ويصعب الفصل بينها.
يتناول شقير بجرأة يُحسد عليها الحنين في الشيخوخة إلى ممارسة الجنس، رغم العجز، ليصير عذرياً مقدّساً، فيأخذ بنصيحة ماركيز “عندما أكملت التسعين من عمري أردتُ أن أهدي لنفسي ليلة حبٍّ مجنونة”، وحينها يستمع لوصايا المضيفة العجوز إيجوشي “وأرجو منك أن تتجنّب المضايقات السمجة… لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة، هذا غير لائق”.
جاءت الرواية في 63 فصلا قصيراً، ويصلح كلّ منها أن يكون قصّة قصيرة، وكأنّي بها لوحة فسيفسائيّة متكاملة، وعناوينها معاً تشكّل قصّة مشوّقة؛ فقدان، أسواق القدس، قميص نومها، قهوة الصباح، خزانة الثياب زيارة ليليّة، غياب، التباس، في البيت، في بيت فريال، غرفة النوم، ضياع، بعد غياب، حلم أسمهان، إلى بيت فريال زجاج النافذة، قبر سناء، زواج، نومٌ مبكِّر، في الليل، صلاة، أخيار وأشرار، مصير الكتب، أداء العمرة، سفر، بوح، مبادرة، شغب، ميراث، زهد، سهرة، شريط الذكريات، انسحاب، مزاح، سريرها، أحلام، خشية، شفقة، المقهى، تقنين الأحلام، أحلام مقنَّنة، ليلتي الثانية، مع الأصدقاء، زيارة، زجاجة نبيذ، خروج، اجتماع، مخابرات، اجتماع ثانٍ، نوم أسمهان، طلاق، الأصدقاء، وإخلاء البيت.
عنوان الرواية “منزل الذكريات” يحكي الحكاية، يأخذ شقير بيدنا في جولة ليوصلنا في نهاية المطاف إلى “منزل الذكريات” الذي جاء ذِكره للمرة الأولى في نهاية الرواية (ص. 172).
راق لي تعامل شقير بنديّة مع كواباتا وماركيز، مع ابن قيّم الجوزيّة وابن قتيبة، مع ماريا زخاروفا (صاحبة المقولة الساخرة “وصلت الديمقراطية يا سيدي”)، ولقائه أثناء العمرة بعمر بن الخطاب واستحضار مقولته “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً”، وأبي ذرٍّ الغفاري ومقولته السرمديّة “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!”، وعلي بن أبي طالب قائلاً “الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا”.
للقدس، بحاراتها وأسواقها و(مقهى الانشراح) أيام الزمن الجميل، وللاحتلال وموبقاته حضور طاغٍ عبر صفحات الرواية، فيتناول الدوريات البغيضة في الشوارع، ومداهمة البيوت والاعتقالات التعسّفية، ورجال المخابرات… وحب الوطن.
جاءت لغة الرواية بسيطة انسيابيّة متبّلة بالأمثال الشعبية التي زادت الرواية أصالة ومصداقية، وعلى سبيل المثال “أعزب دهر ولا أرمل شهر”، “العين بصيرة واليد قصيرة” وغيرها.
قبّعة الموجّه الملهم تلازم شقير بنيوياً دون رتوش ودون قصد؛ فكون الرواية الحاليّة قصيرة تحمل رسالة للروائيين “الجدد” ويقولها بصريح العبارة “يقبع جسد العجوز محمّد الأصغر الذي سيخلّد جسدها المستغرق في النوم في روايةٍ، وإن تعذَّر ذلك، ففي قصّة، وإن تعذّر ذلك، ففي قصّة قصيرة جدّاً، وإن تعذّر ذلك، ففي جملةٍ واحدة مفيدة” (ص.38)
الكاتب محمود شقير مثقّف موسوعيّ بامتياز، واستحضاره لرواية “نعاس” للروائي موراكامي (ص. 129) جاءت بنيويّة أصيلة لتصف حالة النعاس المستديم، وكذلك هو مفكّر أمميّ استحضر سيمون بوليفار (شخصيّة رمزيّة أسطوريّة في تاريخ تحرّر أميركا الجنوبيّة من نير الاحتلال من الهيمنة الإسبانية وأطلق اسمه على دولة بوليفيا) بعفويّة مدروسة مُلهمة. ولقاؤه المتخيّل معه وهمسه في أذنه حين علِم أنّه من فلسطين: “أحبُّ هذه البلاد، وأحبُّ شعبها الذي بذل الغالي والنفيس منذ أكثر من مئة عام من أجل حرّيته… أعلن تضامني مع شعبكم في غزّة الذي يتعرّض الآن لأبشع عدوان… فيكم الخير يا ولدي… فيكم الخير “(ص.175).
ويبقى السؤال عالقاً؛ من يكون جميحان؟ مراوغ بلطجي، ذراع للاحتلال، يعمل تحت مظلّته وحمايته، يصول ويجول في المجتمع الفلسطيني دون رادع، سلب محمد الأصغر بيته وأرضه بالعربدة والسلبطة، تكاثر أمثاله كالفطريات في الأزمنة الأخيرة، وكأنّي بشقير يحذّر منه ومن أمثاله، فهو والاحتلال وجهان لعملة واحدة في زمان السفلة والأوباش.
جاءت النهاية تفاؤليّة بامتياز، تشعّ منها حريّة الوطن والمرأة “أمّا جنود الاحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابةٍ من لصوصٍ أو مثل قطّاع طرقٍ نهّابين. كنّا أنا ورهوان نستقبل شمس ذلك النهار ونضحك باستمتاع مثل طفلين خارجين لتوّهما من متاهات العتمة إلى فضاء النور في رغبةٍ جامحة واندفاع من أجل حياة كريمة مبرَّأة من القيود، وعلى مقربةٍ منّا وقفت أسمهان مبتسمة مشجِّعة، وقد تحرَّرت من سطوة أخيها المجرم الشيطان”.
أضمّ صوتي لصوت الروائي؛ قد ينتهي هذا المسلسل الهابط الذي وجد شعبنا نفسه فيه، قد.
وأخيراً؛ همس لي صديق شقير، صاحب مشورة “قنينة النبيذ” (ص.145) قائلاً: “الله يسامحك يا أبو خالد، والله ما فارقة معي بهالعمر لو ذكر اسمي ودخّلني التاريخ من أوسع أبوابه!”