أبو نزار الأصيل والحافظ الأمين للعهد
بقلم: راضي كريني
.
كنت لجدّي “إيده ورجله” كما كان يقول. وكان بيت جدّي ديوان شيوخ وكهول الحارة، كذلك مقهى أو نادي الحارة، أطلقنا عليه “قهوة الحارة”، يلتمّ كبار السنّ فيه، وينقسمون إلى ثلاث مجموعات: مجموعة للعب الورق، ومجموعة للعب الطاولة/النرد، والمجموعة الثالثة تتألّف من لاعبي الاحتياط والمتفرّجين. وكان أحد روّاد المقهى والد الأستاذ أحمد الحاج “أبو نزار”. وبيتنا يقع بجانب بيت جدّي، وكنت أقوم بتنفيذ أوامر الشراء لجدّي وجدّتي، وبالتالي أصبحت خادما لروّاد المقهى، لذلك تحوّلت ساحة دار جدّي إلى ملعب لأولاد الحارة، ومكانا للقاء و.. والدراسة. وكنت أسمع أخبار عائلات الشيوخ حين يتناولونها بالصوت العالي الموصل لكلّ آذان الحارة. ومن بين الأخبار التي كانت تهمّني، كانت أخبار الشباب الذين يدرسون في الكلّيات والجامعات، وأخذ يسترعي انتباهي الحديث عن أحمد الحاج وأترابه، وكانت تلك الأخبار تسعدني وتدخل إلى قلبي الفرح والعزّة و…
في سنة 1965 دخلت المدرسة الثانويّة طالبا للعلم، حيث يعمل أحمد الحاج أبو نزار مدرّسا ومربّيا فيها، ورأيناه جادًّا ومواظبا ومنضبطا وضليعا و… يفرض هيبته لدرجة أن بعضنا خافه. لكنّه عندما رآني في الصف نظر إلي نظرة اهتمام قريب والعارف لتفاصيل حياتي. لكنّني كنت أفتعل مسافة منه كي لا أحرج بردّة فعل تزعجني، فشعر هو بأنّ مشاعري تجاهه كمشاعر باقي الطلاب وأنّني اعتبره مثل باقي المعلّمين، فأزعجه ذلك، فبادر في أحد الأيّام وفي إحدى الفرص إلى مناداتي، وسألني “كنك بتعرفنيش” قلت “مبلا الأستاذ أحمد الحاج”، قال “بعرف إنّك بتعرف إنّي أحمد” … “بس أنا أبوي نايف صاحب سيدك” قلت “بعرف” وتفاهمنا وتصادقنا ووثقت به، وأخذ أبو نزار “يدلّلني”، ففي كثير من الفرص كان يشاركني وأصحابي في نقاش، وفي الصفّ لا فرق بيني وبين زملائي، لكنّه خارج الصفّ كان دائم التشجيع إلى العلم والدراسة الجامعيّة، كان معجبا بما أكتبه في مواضيع الإنشاء، وكان يكتب لي تعليقا ” لديك مسحة فلسفيّة إلى الأمام، יש לך נימה פילוסופית, קדימה ” أحببت هذا التعليق، وأثّرت مثل هذه التعليقات بي كثيرا، وألزمتني تعليقات مدرّسي اللغتين العربيّة والعبرية بتحمّل مسؤوليّة التقدّم في دراسة الفلسفة، وبدأت أقرأ ما تيسّر لي من كتب الفلسفة الماركسيّة و… ثمّ في سنة 1976 أصبحت زميلا لأحمد الحاج في التدريس في مدرسة “ينّي” الثانويّة، وتوثّقت أواصر الصداقة مع “أبو نزار” أكثر، فتعاونا معا على رفع مستوى المدرسة، وتشاركنا في الهمّ السياسيّ، وكان صديقا وفيًّا للمناضلين ضدّ الظلم، فأشغلت سكرتير فرع الحزب الشيوعيّ الموحّد لكفرياسيف وأبوسنان، فأصبحت أمّ نزار عضوة في الحزب وأبو نزار أصبح من مؤسّسي جبهة كفرياسيف الديمقراطيّة، وكنّا زميلين في السكرتارية، وشاركنا أبو نزار في تأسيس بيت المعلّم الذي أصبح تنظيما تقدّميّا للمعلمين في كفرياسيف، تصدّينا وزملاء آخرون لمخطّطات وزارة المعارف وأجهزة المخابرات الهادفة إلى إغلاق مدرسة يني الثانويّة والإقلال من قيمتها ومستواها تحت مختلف الذرائع السلطويّة، شاركنا أبو نزار في لجنة اليوبيل المحليّة وفي العمل الطوعيّ التبرعيّ في البلدة وعلى وجه الخصوص في المدرسة الثانويّة. تعاونت وأبو نزار على نشر الكلمة الوطنيّة، كنت أساعد على نشر ما ينتجه ويبدعه من شعر في صحف الحزب الشيوعيّ، وكثيرا ما كنت أعرض عليه ما أكتبه، وأطلب رأيه وملاحظاته كأخ كبير وواعٍ لما أريد وأقصد ومراعٍ لمشاعري …
بعد أن تقاعدنا من التعليم، صرت ألتقي “بأبو نزار” في سهل كفرياسيف وبين كروم زيتونها، فأنا أمارس الرياضة وأجمع البقول والأعشاب، وهو كذلك ويعمل على فلاحة أراضيه وحرثها. وكنّا نتبادل الغزل بالأعشاب، وكان رحمه الله يحب السلق الأخضر، وكنت لأنّني أجوب مساحات كبيرة على دراجتي الهوائيّة أعرف أين ينمو السلق فأخبره، وكنا نعرف مناطق الهندباء (العلت) وفائدتها ورمزيّة الصمود الفلسطينيّ فيها، ونجمع الكثير منها، ونتشاور حول مناطق الخبيزة والسمميخة والفرفحينة والسناري والخرفيش والكراث والشومر، لكنّه لم يشاركني في جمع المقرة رغم أنّها تنتشر بكثرة في سهل كفرياسيف، ولم يشاركني في جمع السمّاق والزعتر والزعرور لوجودها في الوعر خارج نطاق كفرياسيف. لم تقتصر لقاءاتنا على الأعشاب فقط، فكنّا نغوص كثيرا في السياسة والأدب والتربية وبالأمور العائليّة وبما آلت إليه كفرياسيف العزيزة على قلبينا.
.
عزائي بخلفه الصالح وبإرثه الأدبيّ الوطنيّ التقدّميّ:
الموت لا يؤلم؛ بل فقدان الحياة التي نعيشها على نحو ما، والمادة لا تفنى، لكنّها تتحوّل إلى شكل آخر، الموت لحظة تفصل بين تراكم وتحوّل، إنّه طفرة تفاجئنا أحيانا، لأنّنا نتوقّع تراكم الحياة إلى ما لا نهاية، لكنّه سيبقى طفرة تفصل بين تراكم حياة دهر نعيشها ونعرفها ونحبّها ونتذمّر منها أحيانا وشكل آخر من المادة الدائمة الحركة بشكل آخر نجهل ونعلم الكثير عنها؛ لكنّنا نتهيّأ لها عن وعي وبدون.
لذلك أحترم أبو نزار وأعتزّ به لأنّه استعدّ للانتقال للحياة الأخرى كرجل لا يهاب طفرة الموت وأحبّ الحياة بإخلاص ووفاء وعرف خاتمته؛ فعاش حياته كما يريدها بدراية ووعي للواقع المعيش، وأخذ بالاعتبار أصول الشراكة والتكامل وراعاهما، لكنّه لم يعش حياته كما يريدها الغير له، ووفقا لمعاييرهم ومأمولهم. عاش متواضعا قنوعا أصيلا لا يعرف التزييف، لم يمثّل دور نبيّ أو حاكم كان دائما أبو نزار في الحقل الزراعيّ والسياسيّ والتربويّ والأدبيّ و.. وبين عائلته وفي كلّ زمان ومكان، كان واضح المعالم وفيّا لأهدافه ومقاصده.
لم يسع إلى أن يصنع شمسا، أو أن يجلبها ويستدعيها لتنير بقعة مظلمة/معتمة يراها، لكنّه شارك بتخفيف الهمّ وإزالته، وعمل بتفانٍ ومسؤوليّة وإخلاص، وضحّى فوق المستطاع؛ من أجل رفع المظالم، ومن أجل ملء الظُّلمة بنور العطاء والمحبّة والوفاء.
كان قدوة في التفاني في الشغل والنشاط، ضحّي بكثير من الرغبات من أجل المصلحة العامّة؛ وكي لا يتفانى الناس من حولنا، ويعمّ الظلم والعنف، وتسود الإبادة.
نقرّ بعظمة أبو نزار كقدوة نحترمها ونعترف بها، لأنّنا اكتشفنا القاسم المشترك لمصالحنا الخاصّة، ولأنّه عمل على توحيد جهودنا واستثمار قدراتنا وتوظيفها من أجل مصلحة عامّة وهدف نبيل ومشترك في التربية والسياسة والفلاحة. أبو نزار كان ذا إرادة عظيمة ليس في الإقدام على عمل ما؛ بل في الإحجام عن مغريات كثيرة ومناصب رفيعة من أجل قضيّة شعبه المظلوم والمسلوب الحريّة. كان ذا عقل راجح.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
كان واقعيّا لم يتنكّر لماضيه بل خلّده وعاش حاضره وتصوّر مستقبله واستعدّ له وتوقّع المعجزات، كانت له أدوار وصولات وجولات على مسرح الحياة، أنهى دورا مهمّا وبدأ آخر مستنهضا الهمم ومداريا للزمن ومتقنا لدور الشيخوخة، لم يعتد على حريّة أحد فتحرّر من الكراهية والأراء المسبقة، لم يكن معلّما للغة العبرية، ولا ضليعا في اللغة العربيّة، ولا فلاحا مثقّفا فقط؛ بل نموذجا يحتذى في حبّه للناس، لكلّ الناس.
رحل أبو نزار عن هذه الحياة، لكنّ روحه ترفرف في أرجاء بيوتنا وسماء الوطن، وذكره يحيي قلوبنا ويدغدغ مشاعرنا المحترمة له، ما منه فينا سيبقى لنا وسنحافظ عليه كبؤبؤ العين، وما منّا فيه سينعش سكون الموتى ويغمرها بالفرح والشموخ وبالحنان.