رواية “الخرُّوبة” لرشيد النجّاب* بين توثيق المكان والتاريخ واقعًا وتَخَيُّلًا… بقلم: د. نبيل طنّوس

رواية “الخرُّوبة” لرشيد النجّاب* بين توثيق المكان والتاريخ واقعًا وتَخَيُّلًا

د. نبيل طنّوس

.

سارت «مِصِلحة» إلى الخرُّوبة الكبيرة غير بعيد عن السقيفة لترقُبَ الركب الذي ابتعد مصطحبًا وحيدها معه، كأنّهم شدُّوا جزءًا من روحها” (الخروبة، ص 21)

سنتناول في هذه المقالة رواية “الخرُّوبة” لرشيد النجّاب، باعتبارها رواية واقعيّة سيريّة تسجيليّة، تؤرِّخ لفترة الحكم العثمانيّ، الذي اجتاح المشرق وخاصّة فلسطين التاريخيّة بمدنها وقراها قاطبَةً بهدف تجنيد الشباب وجبي الضرائب، كما توثّق جغرافيا المكان (مدن وقرى وسهول وينابيع وآبار وغيرها). سنركّز على تقنيّات السرد المختلفة في الرواية، مثل: السرد بضمير الغائب، اللّغة المحكيّة، والوصف، والحوار الداخليّ “المونولوج”، والحوار الخارجيّ من أجل إبراز تفاصيل الأحداث، وهي أمور تفيد تماسك مضامين الرواية ممّا يُثريها بالدراميّة الضروريّة لجذب المتلَقّي لتشويقه وإثارته ولتحقيق متعته.

الخرُّوبة:

ليس اسم الرواية هذا دخيلًا على بلادنا، وإنّما هو اسم لشجرة أصلانيّة كأهل البلاد، الشعب الفلسطينيّ، وهي علامة لمكان: مدرسة الخرُّوبة، مطعم الخرُّوبة، صيدلية الخرُّوبة، حارة الخرُّوبة و”قرية الخرُّوبة” قرية فلسطينيّة مهجّرة، كانت تقع على بعد 8 كم شرق مدينة الرملة، احتلَّتها قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، وهجّرت سكّانها في 12 يوليو 1948.

الخرُّوب منتشر في فلسطين، وشجرة الخرُّوب دائمة الخضرة، تعيش بشكل طبيعيّ ويُستخرج منها شراب حلو المذاق يُسمّى الرُبّ.

كيف برز اسم الرواية في سيرورتها، وجعل الكاتب منه عتبة ومفتاحًا لها؟

نجد “خرُّوبة النحلة” القديمة التي “استقرَّت بين أغصانها نحلة وجعلت لها فيها مقرًّا حتّى غابت واختلفت الآراء حول سبب الاختفاء” (ص 56).

جعلت “مِصِلحة”، أمّ رشيد، من الخرُّوبة مكانًا لترقُّبَ الركب الذي ابتعد مصطحبًا وحيدها معه، كأنّهم شدُّوا جزءًا من روحها” (الخرُّوبة، ص 21)، “ومقرّها ومقامها في ساعات العصر، الخرُّوبة التي ودّعت من تحتها رشيدها وهو يغادر برفقة فرقة التجنيد، تتساءل: من هنا ذهب، فهل تراه يعود من هنا؟” ” وكانت صومعتها، معبدها، وموئلها اليوميّ الذي تلجأ إليه في العصاري كأنّها تعدّ نفسها لمراسم الاستقبال الموعودة” (ص 104)، وكانت المرصد لعودة رشيد المأمولة، ومكان الخلوة اليوميّة التي أدخلت إلى نفسها قدرًا من السكينة. وعندما كانت أم رشيد تغيب، “راحت كلّ من فاطمة وحمده، ابنتاها، تبحثان عن سبب الغياب إلى أن اكتشفتا الصومعة الخرُّوبيّة، وبات المكان أثيرًا إلى قلبيهما بما لمستاه من أثر في هدوء والدتَيْهما وراحتها” وأصبحت الخرّوبة مكانًا للجلسات واللقاءات للصديقات والقريبات والجارات “وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم” (ص105).

هكذا جعل الكاتب من الخرُّوبة الكبيرة الموجودة قريبًا من البيت مكانًا مركزيًّا للمجلس وللقاءات ومكانًا للتأمّل ولاستقبال ابنها الوحيد رشيد وقلبها مملوء بالحسرة والألم والحزن المستديم وهي تتساءل: كيف سيعود؟ متّى سيعود؟

يهدي الكاتب روايته إلى جدّه رشيد وإلى أبيه عبد الرحمن {اسم الكاتب: رشيد (على اسم جدّه) عبد الرحمن (والده) رشيد (جده الذي جندته السلطات العثمانيّة) عبد الرحمن النجّاب {وإلى جدّته وأمّه وإلى “أرواح عانقت الطبيعة في جيبيا (القرية التي ولد فيها في قضاء رام الله). إهداؤه هذا يعني أنّه مُعجَبٌ بهم ويحترمهم ويقدّر أعمالهم. مثير للانتباه أنَّ الكاتب في الأهداف وضع اسم جدّته قبل اسم جدّه واسم أمّه قبل اسم أبيه.

الواقع والتخَيُّل

الواقع تعني حالة الأشياء كما هي موجودة من حولنا فعلًا مقابل الخيال والوهم، والواقعيّة تعكس الحياة الحقيقيّة كما هي تمامًا وتكون فيها العلاقات الإنسانيّة واضحة والمكان واضح والأحداث حقيقيّة. الواقعيّ يتعلّق بفكرة الشيء بوصفه غرضًا فكريًّا راهنًا وقد يتضمّن تصوُّرًا للواقع، وهو تخيُّلًا إلى ما يمكن أن يكون. قال جورج برنارد شو: “الخيال هو بداية الإبداع، إنّك تتخيّل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيّله، وأخيرًا تصنع ما ترغب فيه”.

التّخّيُّل هو قدرة الإنسان على رؤية وتشكيل الصّور والرموز العقليّة للموضوعات والأشياء والإحساس بها بعد اختفاء المثير الخارجيّ، كذلك فإن التّخّيُّل عمليّة عقليّة لاسترجاع صور حسّيّة مختلفة وأحداث من الحياة الماضيّة وتضمينها وتشكيلها لصور ورسوم وأحداث جديدة.

والتخيّل كعنصر روائيّ هو “طاقة الفكر على جمع شذرات النّصوص المقروءة والذكريات البعيدة والتجارب المختلفة في حركة متّجهة لخلق عالم الرواية. ولا بدّ لتحليل التخيّل من العودة إلى المفردات الدّالّة والصّور المتكرّرة وتصنيفها والمقارنة بينها” (عساقلة ومرعي 2024. ص 32).

استخدم كاتب رواية “الخرُّوبة” مخيّلته في وصف المرحلة التي عاشها جدّه رشيد، لكن لا بدّ أنّه جمع معلومات عديدة سمعها من عدّة مصادر من جدِّهِ ووالده وأقربائه ومن أبناء قريته “جيبيا” والقرى المجاورة، معلومات شكّلت أساسًا للرواية. كتب الأديب الفلسطينيّ محمود شقير على الغلاف الخلفيّ للكتاب مؤكِّدًا ذلك قائلًا: “حين شرع رشيد عبد الرحمن النجّاب في كتابة سيرة جدّه رشيد لم يجد بُدًّا، بسبب شحّ المعلومات الشّخصيّة لديه عن الجدّ، من إطلاق العنان لمخيّلته لكي تستحضر المرحلة التي عاش فيها جدّه أواخر أيام الدولة العثمانيّة التي شهدت إقدام الدولة على تجنيد الشباب الفلسطينيّين والزجّ بهم في حروبها العديدة في أصقاع الأرض المختلفة”.

توثيق التاريخ والمكان

التاريخ (القصة)

تركز الرواية على عمليّة تجنيد السلطات العثمانيّة للشباب عامّة ولرشيد النجّاب خاصّة، جدّ كاتب الرواية، في زمن الحرب العالميّة الأولى، وخلال هذا نقرأ وصفًا تفصيليًّا لرحلة التجنيد وما صادفه الجنديّ رشيد النجّاب خلال سفره وباقي الشباب مع جنود السلطان وحتّى عودته سالمًا إلى قريته “جيبيا” قضاء رام الله. نصادف الأجواء العائليّة والاجتماعيّة في القرية، أصول الضيافة، وعلى سبيل المثال استقبال أبي سليم لعبد الرحمن “فقبل أن تنتهي جلسة عبد الرحمن مع أبو سليم، استأذن عبد الرحمن ليذهب إلى السوق في بير زيت لشراء بعض السكَر والشاي، فقال له أبو سليم “هذه المواد باتت شحيحة في الأسواق”، وأضاف “فثمَّة من يقول أنّ حربًا كبيرة على وشك الوقوع، لكنّني أحضرت من القدس كمّيّات وافرة من باب الاحتياط، وسيكون لك منها نصيب، ثمّ إنّ هذه الموادّ غير متوفّرة في بير زيت، ولا حتّى في رام الله”. (ص 59-62). والاهتمام بمتطلبات الحياة، ومعاناتهم اليوميّة وشقاء عيشهم، فالأرض محدودة مساحاتها والماء شحيح ونادر وفوق كلّ هذا يترصّد بهم مقدِّرو الضرائب للسلطان ومن هنا نقرأ عن نظرتهم السلبيّة إلى أحكام رجال السلطان الجائرة.

أثار تجنيد الشباب مخاوف الناس وشغل حيّزًا كبيرًا من حياتهم، خاصّة وأنّه لا علاقة لهم بالحرب وحدث أنّ الكثير من الشباب هربوا وأُطلق عليهم “الفراري” بمعنى الفارّين من خدمة التجنيد في صفوف جيوش السلطان، ممّا جعل جنود السلطان القيام بحملات تفتيش عنهم واعتقالهم ومعاقبتهم.

كان رشيد ابنًا وحيدًا لوالديه، عبد الرحمن ومِصِلحة أمّ رشيد، التي كانت قلقة جدًّا على ابنها وحيدها، عندها قال لها عبد الرحمن: “اللي بوقع من السما بتتلقاه الأرض” (ص 10).

قدمت لنا رواية ” الخرُّوبة ” صورة غير عاديّة ومفاجئة، فعبد الرحمن والد رشيد المجنّد ووالدته مِصِلحة أبديا موقفًا عقلانيًّا وواقعيًّا ولم يستسلما لاقتراحات البعض عليهم والداعية لتجنيب ابنهما الوحيد التجنيد، بل أصرّا على تجنيده واعتبر عبد الرحمن أنَّ تجنيد رشيد أفضل من هروبه مبرِّرًا ذلك بقوله: “قد يبقى أمل بالعودة مهما كان قليلًا إن هو ذهب بالطريقة العاديّة، أمّا أن يختفي ثمّ يُلقى عليه القبض لاحقًا بصفته فراري فإنّ هذا يلقي بمصيره إلى المجهول حتمًا” (ص 11).      

هكذا تجنّد رشيد، الابن الوحيد، في صفوف جنود السلطان ولم يكن والدا رشيد يعرفان إلى أيّ جبهة يقتادون ابنهم ليحارب فيها، ولكن أشار أحد جنود السلطان قبيل التحرّك من “جيبيا”، قائلًا “إنّ مشوار هذه المجموعة لن يكون بعيدًا” وفي هذا بصيص من الأمل.

جميع أفراد العائلة كانوا قلقين وخاصّة الأمّ فانتابتها تساؤلات ومخاوف وهموم، وقام الوالد عبد الرحمن باحتواء الأمّ والجميع ونادى على ابنته فاطمة قائلاً “جيبوا لنا لقمة خبز وشوية زيت يابا، ثمّ دعا زوجته إلى الطعام” على الرغم من أنّه شعر بغصّة فطلب جرعة ماء فشرب ودفع بالطبق بعيدًا وقال “كأنّني أرى رشيد يجلس ويأكُل معنا، وقفت اللقمة في الزور ولم تجد للمتابعة سبيلًا” (ص25).

بعد رحلة سفر طويلة وصل المُجنّد رشيد إلى دمشق وثمّ إلى بعلبكّ حيث أُصيب المجنّدون بدهشة المكان. بعلبك “مدينة الشمس”، وأحد مساكن الإله بعل، “بعلبك”، بعل للإله، وبق للبقاع، فهي “موطن إله البقاع”(ص 76).

وبعد كلّ المعاناة عاد رشيد إلى بيته في جيبيا. بالنسبة لأمّ رشيد “مِصِلحة” لم تفقد الامل أبدًا “والأمل الخافق بعودة رشيد، ذلك الإحساس الخاص الذي سكنها منذ ان تابعت الركب يبتعد برشيدها إلى أن لمحته على مشارف أم صفاة …….. بدأت ” مِصِلحة” تؤسّس لحياة جديدة تولّت فيها دفّة القيادة…….. والخرُّوبة كانت مكان الاستقبال” (ص 104).

“رشيد! … هذا رشيد! ألف الحمد لله على سلامتك يمّه يا حبيبي” (ص 107).

يجدر بنا هنا أن نتساءل هل رواية الخرُّوبة هي رواية تاريخيّة أم أنّها رواية سيرة لعائلة النجّاب؟

“مِن عادة الروايات التاريخيّة التقليديّة أن تعتمد في أحداثها على شخصيّة كان لها دور هامّ في حقبة زمنيّة معيّنة، فيحوّلها الروائيّ إلى عمل فنّيّ يجمع فيه بين التاريخ والخيال لتصبح رواية فنيّة تقول ما لا تقوله كتب التاريخ وتصبح قادرة على التحاور مع القارئ بشكل آخر بعيدًا عن الطرح التاريخيّ الذي يحتمل الصدق والكذب والتزييف” (كامل،2019، ص35).

نجح الكاتب في مزج التاريخ بالسرد الروائيّ وهذا أمر صعب، يتطلّب خبرة بفنون السرد اللازمة لجذب المتلقّي وتشويقه وإثارته ليستمرَّ في قراءة الرواية حتّى نهايتها، فالكاتب اختار موضوعًا من وقائع حياة أسرته وبنى روايته، فهي سرد عائليّ تاريخي لما حدث مع جدّه ففي السرد أمكنة وتواريخ وأحداث خاصّة بالعائلة وعامّة بالمجتمع. هذا ساعده في معرفة كيفيّة عرض التاريخ بشكل فنّيّ روائيّ، محافظًا على الأحداث التاريخيّة والسرد الروائيّ.

هذه الملاءمة بين فنّ السرد الروائيّ والسرد التاريخيّ بطريقة السرد الدراميّ جعلت من الرواية عملًا جيّدًا، شائقًا ومثيرًا وبالرغم من صغرها نسبيًّا، فهي رواية قصيرة لا تتعدّى مائة وعشر صفحات من القطع المتوسّط، ويمكن تصنيفها رواية قصيرة (نوڨيلا)، لكنّها مكثّفة بالأحداث، وغنيّة بالدلالات والاستنتاجات التي يحملها المتلقّي معه بعد إنهاء قراءتها.

الجغرافيا/ المكان

المكان لغةً المَوْضِع الحاوي للشّيء، أو الفراغ الذّي يشغله الجسم، “والمكان موضع لكَيْنونةِ الشّيء فيه، والمكان الموضع، والجمع أمكنةٌ، وأماكنُ جمع الجمع (لسان العرب، مادّة “مكان”).

تحمل كلمة “المكان” معانيَ الحيِّز، والحجم، والمساحة، والخلاء. يُمكن للمكانِ أنْ يكون مُستقلًّا في وجوده عَنِ الإنسان، ولكنّ وجود الإنسان يرتبط بالمكان ارتباطًا وجوديًّا. للإنسان علاقته الوثيقة مع المكان، نشأة وتربيّة، ثقافة وتاريخًا، ذكريات وأحلامًا، يُؤثِّر فيه ويتأثَّرُ به. مِنْ هنا نَشَأت علاقة جدليّة بينَ الإنسان والمكان، حتّى أنّ بعض المفكّرين والمُؤرّخين صنّفوا الحضارات والثقافات حسب أشكال المكان. (عزّام 2010، ص 205).

الأمكنة عديدة سوف نبحث في رواية “الخرُّوبة” عن جغرافيا المكان وعن أماكن بأشكالها المختلفة، مثل: أسماء بلدان، مناطق، البيت، الحارة، القرية، المدينة، مكان خاصّ للمجالس واللقاءات والاجتماعات كـ ” الخرُّوبة “، المقامات المقدّسة، تضاريس الأرض الآبار، الينابيع، الوديان، الأنهر، السهول، الجبال، البحار وغيرها ومن ناحيّة أخرى سنبحث عن توجّهات الإنسان للمكان وارتباطه به شعوريًّا، وهي أمور حسّيّة غير مرئيّة إنّما إدراكيّة بصريّة.    

قد يكون المكان مسكن الشّخصيّة أو مسكن لقريب أو لصديق. عندها نتساءل: ماذا رأت من المكان؟ ما هي علاقتها به، وما هي درجة الصّلة بينهما؟ فماذا يعني كلّ هذا؟ كيف نفهم المضمون بحسب كلّ هذا؟ المكان، كما يقول رينيه ويليك وأوستن وارين (ويلك ووارين 1987، 231-232) “يُصوَّر كتعبير مجازيّ عن الشّخصيّة، فبيت الإنسان امتداد لنفسه، إذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان”.  يعبّر المكان عن أصحابه ويكشف عن حياتهم الشّخصيّة والنّفسيّة وعن طبائعهم وأمزجتهم. وتنظر السيّميائيّة إلى المكان نظرة مغايرة وتدركه بشكل دلاليّ، ليس فقط مادّيًّا وفيزيائيًّا إنّما إلى شاراته وعلاماته ورموزه، فهو حسب سيزا قاسم (قاسم 2002، ص 81) “ليس فضاءً فارغًا، ولكنّه مليءٌ بالكائنات وبالأشياء، والأشياء جزء لا يتجّزأ من المكان، وتضفي عليه أبعادًا خاصّة من الدّلالات”.

في رواية “الخروبة” برز بشكل خاصّ مكانان: البيت والقرية.

البيت هو المكان الذي يلجأ إليه الإنسان بعد يوم من العمل، فهو مصدر الرّاحة والطمأنينة، والمكان الذي به أقرب النّاس إليه، مادّيًّا ومعنويًّا. ويرى باشلار أنّ البيت هو المكان الأليف: “وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة، إنّه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا، فالمكانيّة في الأدب هي الصّورة الفنّيّة التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة، ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المحور” (باشلار، 1980 ص 43-44).

القرية هي المكان أو الموقع او المحيط الّذي يعيش فيه الإنسان. للقرية أهمّيّة كبيرة من عدّة جوانب، مثل: الاجتماعيّة، الأخلاقيّة، العادات والتقاليد، أنماط الحياة السلوكيّة في المناسبات المختلفة، أصول الضيافة، الجوانب الاقتصاديّة، مجالات العمل، السّياسيّة وغيرها، فالإنسان يعيش في المكان جماعات لها هذه الجوانب، تحصل على قوّتها من المكان ولها علاقة بنباتاته وأشجّاره وأحجاره وصخوره وروائحه، إلخ، تفلح الأرض وتبني البيوت، تدافع وتناضل للحفاظ على المكان، كلّ ما يشكّل الوعي الإنسانيّ الثّقافيّ والحضاريّ يرتبط بالمكان على مرّ التّاريخ.

لقد أكّدت الرواية أنّ المكان موجود وقائم وحقيقيّ، فعمليّة طرح الأماكن الفلسطينيّة والمواقع المختلفة والكثيرة هي توثيق لها وإبراز وجودها ممّا يرمز إلى الانتماء للمكان وتملّكه: خربة صيّا، كفر أشوع، إم صفاة، بير زيت، برهام، جفنا، عين سينيا، جينيا، كوبر، مقام بايزيد البسطامي، عطارة، بيت صفافا، بتير، مقام الشيخ عبد المحسن، مقام الأربعين، دير الشيخ، دير أبان، النبيّ صالح، وادي الصرار نهر روبين وأحياء القدس (البقعة التحتا، البقعة الفوقا، القطمون)، اللد والرملة، طولكرم، جنين التي تغرق في التاريخ وحارسة مرج ابن عامر (الخرُّوبة، ص 51) وغيرها من الأسماء وسائر المدن والأمكنة في الطريق الطويل حيث مسار القطار في خطّ حديد الحجاز بين القدس ودمشق مرورًا بجسر المجامع واودي اليرموك، وصولاً إلى سَمَخ القرية الصغيرة الوادعة والواقعة جنوب بحيرة طبريّة وصولًا إلى محطّات الحِمّة وزيزون وتل الشهاب والمزيريب ووصولاً إلى درعا في سوريا الكبرى. وبعدها إلى محطّة الحجاز والمرور بمدينة دمشق المدينة الموغلة في عراقتها، وحضارتها، وجمال طبيعتها الخضراء وطقسها المعتدل وصولًا إلى بعلبك (الخرُّوبة، ص 63-66).

يعرف الراوي تفاصيل الأمكنة والعلاقات بين ناسها، والمجبول بتاريخ البلاد وأهلها. يصف المكان بنظرة جميلة، وأجواء منعشة بجماله وبهائه والخضرة الدائمة والرائعة ويعدد أشجاره: الخروب والكينا والفلفل البرّيّ، وخضرواته وبُقولِه، وفواكه، مثل التين والعنب والصبر والبطيخ والزيتون والزبيب والقطين وغيرها).

هذا السرد الموسّع للمكان، ما ذكرناه وما لم نذكره من الأسماء والمواقع الجغرافيّة إنّما تدلّ على أهمّيّة المكان عند الراوي، حيثُ أعطت الرواية مصداقيّة بكون السارد هو صاحب البيت والمكان والوطن بأسره.

اللغة والأسلوب السرديّ:

الأدب بكلّ أجناسه شعرًا وومضةً وروايًة وقصًّة وغيرها هو نتاج الّلغة، فهي الأساس الهام الأول لأي إنتاج أدبي. للأدب مكانة خاصة وهامة في الحفاظ على اللغة والارتقاء بها من خلال كل أشكال الكتابة الإبداعيّة المختلفة.

“اللغة هي الوسيلة التي نعبّر بواسطتها عن واقعنا وعن خيالاتنا، وعن همومنا وأفراحنا. وحين نجمع ما بين اللغة والخيال نستطيع أن نصل إلى المدى الأبعد والأعمق، ويصبح العالم أوسع وأغنى وأكثر شموليّة. إنّنا نرى بخيالنا مدًى أبعد ممّا تراه العين، وبواسطته يمكننا خلق ما هو أبعد من الصورة المحسوسة، لكنّ هذه الرؤية وهذه الرؤيا تظلّان حبيستي الخيال حتّى نحيلهما إلى صورة كلاميّة. وبالتالي فإنّ الّلغة تنقلها من عالم الفرد باتّجاه الفضاء الاجتماعيّ الأوسع”. (كامل،2022، ص 39).

اللغة في رواية “الخروبة” سلسة وجذّابة ممّا يساعد المتلقّي على التركيز والاستمرار في القراءة والاستمتاع بها، فقد تنوّعت طُرق السرد فيها: السرد بضمير الغائب، الحوار الداخليّ (المونولوچ)، الحوار الخارجيّ، اللهجة المحكيّة، المثل الشعبيّ، والوصف.

السرد بضمير الغائب: من أهمّ عناصر الرواية عنصر السرد ويقوم به الراوي وهو “شخصيّة وهميّة ووظيفة من وظائف النصّ الذي يخلقه الكاتب مُصَوِّرًا فيه عالمه وزمانه في الرواية الحديثة، هناك كاتب حقيقيّ وراوٍ وهميّ وإلى جانهما قرّاء كُثر من لحمٍ ودمٍ يقرؤون النّصّ في خلواتهم. (عساقلة ومرعي،2024، ص 30).

يسرد الراوي الأحداث بضمير الغائب ويعرفها كلّها، ويسردها بشكل محايد، مثل: “كان عبد الرحمن يخشى على ولده الوحيد” (ص 10). “وضع رشيد الأوعية الفارغة على جانبي الحمار” (ص11). “كانت مِصِلحة قد أوصت ابنتيها، فاطمة وحمده، ببعض الأعمال” (ص 21). “تهلل وجه عبد الرحمن وهو يتذكر طمأنة رشيد لوالدته” (ص 61) وغيرها. السرد بضمير الغائب يعطي شعورًا بمصداقية الرواية وهي التي يلتقي فيها سرد الراوي ومخيلته مع مخيلة المتلقّي.

الحوار الداخليّ (المونولوچ): الحوار من أهمّ الوسائل المستخدمة في رسم وبناء الشّخصيّة الروائيّة، فالشّخصيّة لا تُبنى من خلال أفعالها فقط، ولا من خلال أقوال الآخرين عنها فحسب، بل، أيضًا من خلال ما تقول. حين تتحدّث الشّخصيّة مباشرة وتحاور جهرًا تكشف عن دواخلها وتُعَبِّر عن نفسها (عساقلة ومرعي، 2024، ص 109).

أمّا الحوار الداخليّ فهو حديث الشّخصيّة مع نفسها، من غير وجود إمكانيّة تواصل وردّ عند الشخصيّات الأخرى. يستخدم الحوار الداخليّ في السرد لمعرفة أفكار وأحاسيس ودوافع وأهداف الشّخصيّة نحو حدث معين.  في الحوار الداخليّ تساؤلات، تأمّل ومناجاة وغيرها.

الحوار الداخليّ موجود بكثرة في رواية الخرّوبة وخاصّة من الأمّ مِصِلحة أمّ رشيد ووالده مثلًا: “كان وجوده عونًا حقيقيًّا لي، فمتى تراه يعود؟ هل حقًّا سيعود؟ هل أراه مجدَّدًا (ص 21). “فنهضت أمّ رشيد متثاقلة … وفي البال أفكار، وهموم، وأشجان، وتساؤلات: أين تراهم يذهبون بعد أمّ صفاة؟ وأين يستقرّ المقام بولدي؟ (ص23). “أمّ رشيد: هل سيرحل كلّ من في القرية وتبقى البيوت خواء، هل يعقل هذا؟” (ص 93).

والحوار الخارجيّ هو محادثة بين شخصين أو أكثر، وفيه إمكانيّة تواصل وردّ عند الشخصيّات الأخرى. تعتمد الشّخصيّة عليه للحصول على أمر ما من الآخرين، أو الاستفسار أو التعرّف على الآخرين أو تقديم أنفسنا لهم أو طرح قضيّة للآخرين وفي الأساس هو وسيلة التفاعل بين الناس، يساعد الحوار الخارجيّ في العمل الأدبيّ المتلقّي فهم أحداث القصّة وحبكتها والصراعات المختلفة بين الشّخصيّات، مثلًا: “ماذا لديك يا رجل؟ فقال: هل من إعفاء للولد الوحيد لأبويه؟ والقائد قال بحزم: أوامر السلطان واضحة، تجنيد يعني تجنيدًا للجميع ودون استثناء” (ص 17) وغيرها الكثير.

عَبَّر الحوار في رواية الخرُّوبة عن واقع الحیاة القرويّة في فترة تجنيد الشباب للسلطات العثمانيّة وكان أحد الإضاءات للمضمون وكشف عن طبیعة الشّخصيّات ومعرفة أفكارهم وتماهيهم أو اختلافهم مع القضيّة المطروحة ويكشف التعاطف أو التنافر بين الشّخصيّات. شكّل الحوار في الخرُّوبة وسيلة لجذب وإثارة المتلقّي ومتعته، خاصّة الحديث باللغة المحكيّة واستعمال الأمثال الشعبيّة التي تجعل من المضمون مناسبًا ووثيقَ الصلة به ويعوَّل عليه relevant)) ممّا يشدُّه ويمَتِّعه.

اللهجة المحكيّة: اللهجة المحكيّة في الخرُّوبة هي اللهجة الفلسطينيّة وهي وسيلة الحوار والمخاطبة فيها. تختلف أحيانًا من مدينة وقرية إلى أخرى، ومن منطقة جغرافيّة إلى أخرى، ولكن غالبًا تكون مفهومة للجميع. تجدر بنا الإشارة إلى التشابه والتقارب بين اللهجتين الأردنيّة والفلسطينيّة إلى حدٍّ كبيرٍ. في الخرُّوبة كثر استعمال اللهجة المحكيّة ممّا زاد من واقعيّتها ومصداقيّتها وتأثيرها الكبير على المتلقّي بحيث إنّه يشعر بأنّها وثيقة الصلة فيبتسم أحيانًا أو يضحك وربّما يبكي، فكثيرًا ما تذكِّره بأمور حدثت معه شخصيًّا أو يتذكر جدّه وجدّته وأمّه وأباه وغيرهم، أمثلة: “أعطوني مية”، نشفوا ريقي ألله ينشف ريقهم” (ص22). “يلله يمه يلله أبوكن انشغل باله، مستعجلات ع الخُرّاف” (ص 48). “شو مالك يا أبو رشيد شو اللي شاغل بالك؟” اصبري يا ام رشيد خلين أقعد وأرتاح شوي” (ص 91).

المثل الشعبيّ: يعكس المثل الشعبيّ أفكار وأحاسيس الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعيّة والطبقيّة، وهو المعبر الصادق عن همومهم، وأفراحهم وغيرها. أصل كلّ مثل قصّة أو حادثة جرت يومًا ما، فأصبح يصف الحالة الآنيّة مشابهة للحالة التي نشأ فيها المثل، كما تعبر الأمثال الشعبيّة عن ضوابط أخلاقيّة، لتعطي درسًا ولتكون ضابطًا سلوكيًّا أخلاقيًّا لعامّة الناس، تتناقلها الأجيال فتبقى محفورة في ذاكرة الشعب تعبِّر عن حياة الناس بكلّ جوانبها الخير والشرّ، الجيّد والرديء، الفرح والحزن.

ورد في رواية “الخروبة” العديد من الأمثلة الشعبيّة الفلسطينيّة وهي مرآة صادقة لحياتهم وتجاربهم وتعكس عاداتهم وتقاليدهم والأنماط السلوكيّة التي سلكوا حسبها، مثل:

لطش المجيدي وقال لي أنتِ فراري (ص11).

إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني (ص13).

الصباح رباح (ص23).

أوّل الغيث قطرٌ ثمّ ينهمر (ص 30).

مثل خبز الشعير مأكول مذموم (ص 40).

من سَرى باع واشترى (ص 56).

الوصف: هو طريقة سرد الكلام في وصف حالة معيّنة تسهّل على المتلقّي الحصول على المعلومات من الراوي، لذلك يتوجّب على الراوي تقديم وصفٍ دقيقٍ بطريقة يُسَهّل فهم واستيعاب المعلومات، وهنا على الراوي انتقاء كلمات وصور جاذبة ومؤثّرة تصل إلى المتلقّي، وهذا يتطلّب معرفة كبيرة في الًلغة وقدرة عالية على سرد المعلومات بطريقة دقيقة ومؤثّرة، وامتلاكه الثقافة الكافية التي تمكّنه من وصف الأشياء كما يجب، إذ قلّما نجد نصًّا بدون وصف، وصف منظر، وصف شخصيّ، وصف مشاعر.

في رواية “الخروبة” استعان الراوي باللغة المحكيّة والأمثال الشعبيّة والكلمات الأنيقة لوصف الحالات المختلفة في الرواية، ممّا يشدّ المتلقّي ويجذب انتباهه فالوصف كان في أغلبيّته انفعاليًّا.

تعابير مثل: نسائم رقيقة، شواربهم الكثيفة المبرومة، صمت عميق شديد الرهبة، أجواء مرج ابن عامر المنعشة، جنين حارسة مرج ابن عامر، جبل “صيا” ببهائه الكامل، نهر بردى الخالد، مدينة دمشق المدينة الموغلة في عراقتها، وحضارتها، وجمال طبيعتها الخضراء وطقسها المعتدل، بعلبك مدينة الشمس وغيرها.

شخصيّات الرواية:

الراوي في رواية الخروبة” هو راوٍ عليم يروي الأحداث بضمير الغائب ويعرفها كلها، ويسردها دون الإشارة لنفسه.

الشّخصيّة الرئيسيّة: رشيد المُجَنَّد هو الشّخصيّة الرئيسيّة التي تقوم بدور أساسيّ في الرواية وتتمحور حولها الأحداث، والأفكار والأحاسيس الأساسيّة.

الشّخصيّات الثانويّة: الشّخصيّة الثانويّة هي الشخصيّة المساعدة والداعمة للشّخصيّة الرئيسيّة ودورها إكمال الأحداث من أجل إكمال الرواية، تُشارك الشّخصيّات الثانويّة في تطوّر الأحداث.

عبد الرحمن أبو رشيد: هو شخصيّة ثانويّة.

مِصِلحة أمّ رشيد: هي شخصيّة ثانويّة.

فاطمة وحمده وأبو سليم وسالم داوود نخلة وغيرهم: شخصيّات هامشيّة جانبيّة تؤدّي أدوارًا

جزئيّة أقلّ من أدوار الشخصيّات الثانويّة.

ملخّص:

درسْنا في هذه المقالة رواية الكاتب رشيد النجّاب “الخروبة”. تمحورَ جُلَّ اهتمامنا في توثيق المكان والتاريخ نظرًا لأهمّيّة الذاكرة من أجل الخلود دائمًا وأبدًا. وتطرقّنا أيضًا إلى متطلّبات العمل الروائيّ، لذلك ابتدأنا المقالة عبر تحليل تداعيات عنوان الرواية لكونه عتبة المتن، من ثمّ أوردنا تحليلًا بحثيًّا في الّلغة والاسلوب السرديّ، والشخصيّات.

المصادر

باشلار، جاستون. (1980). جماليّات المكان. ترجمة: غالب هلسا. دار الجاحظ، بغداد.

عزّام، فؤاد. (2010). بناء المكان في الخطاب السّرديّ. مجلة المجمع، 2، أكاديمية القاسمي، رئيس التحرير: أ. د. ياسين كتاني. باقة الغربيّة.

عساقلة، عصام وخديجة مرعي. (2024). بناء الشّخصيّات في روايات أيمن العتوم. دار يزن   للنشر والتوزيع. دالية الكرمل. حيفا.

قاسم، سيزا. (1986). المكان ودلالته. مجلة البلاغة المقارنة، ألف العدد السادس ألف. الجامعة الأمريكية، القاهرة.

كامل، رياض. (2022). المتخيّل السرديّ العربيّ الحديث. الأهلية للنشر والتوزيع. عمّان.

كامل، رياض. (2019). الواقع والتخييل. عالم محمّد علي طه الأدبيّ. الأهلية للنشر والتوزيع. عمّان.

النجّاب، رشيد. (2024). الخروبة. رواية من إصدار الآن ناشرون وموزعون. عمان

ويلك، رينيه، ووارين، أوستن. (1987). نظريّة الأدب. ترجمة: محيي الدّين صبحي. المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر. بيروت

لسان العرب، مادّة “مكان“، موقع الباحث http://www.baheth.info

**

* الكاتب رشيد النجّاب

    ومن الجدير بالذكر أن رشيد عبد الرحمن النجّاب كاتب أردني/فلسطيني، حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم الصيدلانية من جامعة المنصورة – جمهورية مصر العربية – 1978، رئيس اللجنة العلمية ولجنة التعليم الصيدلاني المستمر في نقابة الصيادلة سابقا، ومدير تحرير مجلة الصيدلي في نقابة صيادلة الأردن (1980 – 1982)، يكتب في جريدة الرأي الأردنية وجريدة الدستور الأردنية وجريدة الأيام الفلسطينية وجريدة الاتحاد الحيفاوية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار