العزلة في رواية قلب الظلام
للكاتب جوزيف كونراد
بقلم الدكتور منير توما
كفرياسيف
إنَّ الرواية أو الحكاية القصيرة (novella) التي تحمل عنوان “قلب الظلام“ (Heart of Darkness) ، هي عمل منويّ في تاريخ الأدب الحديث كما هي أيضًا هجوم مرير وقاسٍ جدًا على الامبريالية الأوروبية حيث نشرت هذه الرواية القصيرة في كتاب عام 1902. إن “قلب الظلام” تحكي قصة ملّاح انجليزي شاب مغامر، اسمه مارلو، ومواجهته بالأماكن الهامة البعيدة جدًا للإمبراطورية حينما يسافر ويصل الى نهر الكونغو. وفي الوقت نفسه، إنّها رحلة داخلية لاكتشاف النفس الى قلب الظلام الذي يكمن من الداخل.
ومثل معظم قصص جوزيف كونراد المبكرة، فإنّ “قلب الظلام” ترتكز على تجربة شخصية كملّاح تاجر، وعند وصوله الى الكونغو عام 1890 لتسنُّم قيادة سفينة بخارية صغيرة، فإن كونراد شهد تطوّر التأثير البشري المُدَمِّر للاستعمار (الكولونيالية 1857-1924) الأوروبي على السكان الأصليين المهجّرين المقتلعين. ومع ذلك، فإنَّ “قلب الظلام” أبعد ما تكون عن كونها دعاية سياسية مضادة للإمبريالية أو دراسة أوتوبياغروفية (خاصة بسيرة حياة المرء مكتوبة بقلمه) خاصة باستئصال القبلية (detribalization)وهي كذلك تحفة للسرد القصصي الحديث. إن تجارب كونراد الشخصية هي تلك الخاصة بالمنفى عديم المأوى، شخص وحيد وغريب لغويًا، بولندي يبحِر في سفن فرنسية وبريطانية، أوروبي في آسيا أو أفريقيا، وباختصار، رجل عاش في الأراضي الحدودية الثقافية في مفترق طرق التقليد والحداثة. إن تقنيات كونراد السردية في رواية “قلب الظلام” تلتقط هذا الإغتراب المجزّأ، وبالتالي تصور مسبقًا بطرق عديدة وجهات النظر المتعدّدة، والتمثيل الانطباعي، والتطوّر اللغوي، والنماذج الأسطورية والذاتية والنفسية التي أصبحنا نربطها بالأدب الحداثي. في إطار رحلة مارلو الى أعلى النهر للعثور على كيرتز، هناك رحلة أخرى، رحلة داخلية حيث تطرح رواية كونراد موضوعات مثل الاغتراب، الطموح، المجتمع، الحرية، الهوية، العُزلة، القمع، العِرق، والعمل. وسنركز في هذه الدراسة على موضوعية العُزلة في هذه الرواية القصيرة.
في وقت مبكر من روايته، يحاول مارلو أن يضع في أذهان مستمعيه على متن السفينة (نيلي) بعض الفهم للأهمية التي يحملها كيرتز بالنسبة له. إنّه يحتاج إليهم أن يفهموا “كيف خرجتُ من هناك، وما رأيته، وكيف صعدتُ الى أعلى ذلك النهر الى المكان الذي التقيت فيه لأول مرة بالشاب الفقير.”
“هل تراهُ، هل ترى القصة؟” هو يسأل جمهوره. إنّ اسئلته الملحة ليست مجرد بلاغة؛ هذا اللقاء، بعد كل شيء، لم يكن أمرًا بسيطًا بالنسبة لمارلو، بل “كان أبعد نقطة ابحار ونقطة الذروة في تجربتي.”
في الصمت الذي يتبع، هو يجيب عن سؤاله: “هذا ليس ممكنًا. إننا نعيش كأننا نحلم – وحدنا.” قلق مارلو بشأن العزلة باعتبارها الحالة الانسانية الحقيقية يطارد كونراد في قلب الظلام، حتى وهو يكافح لتوصيل المعرفة للآخرين.
من المؤكد أن مارلو يذهلنا منذ البداية كشخصية منعزلة ومعزولة، مثل كونراد نفسه، دائمًا ما يكون غريبًا. في مزاجه واهتماماته ليس كغيره من البحارة الذين عقولهم منشغلة بالبقاء في المنزل”، كما يلاحظ الراوي الذي لم يذكر اسمه. حتى على متن السفينة (نيلي)، بين الأصدقاء، يجلس بعيدًا، غامضًا، ومصامتًا في وضع بوذا المتأمل“.
في روايته الخاصة، من الواضح أن مارلو، على الرغم من كونه مراقبًا مدروسًا وحساسًا، لم يظهر ابدًا في المنزل بين الآخرين. وفي بروكسل يشعر وكأنه في “قبر أبيض”؛ يضايقه موظفو الشركة أو يضايقونه بشكل موحد ويشعر بأنه “دجال”. لقد قضى رحلته الى أفريقيا في “عزلة بين كل هؤلاء الرجال الذين لم يكن لدي أي اتصال بهم.” يتجنّب رفاقه المسافرين، ولا يتصل إلّا بالبحر: “صوت الأمواج الذي يُسمع بين الحين والآخر كان متعة ايجابية، مثل خطاب الأخ. لقد كان شيئًا طبيعيًا، له سببه، وله معنى”. بوصوله الى الكونغو، تتعمّق عزلة مارلو حينما يجد نفسه يلفّه الغضب أخلاقيًا حول الكسل، الجشع، القسوة واللامبالاة التّامة للمعاناة الإنسانية التي عرضها زملاؤه الأوربيون. ومع ذلك، فهو يفشل أيضًا في إجراء أي اتصال ذي معنى مع الأفارقة الأصليين، الذين نادرًا ما يمنحون مكانة انسانية في روايته ويشار اليهم على أنهم “متوحشون”، و “زنوج”، وأكلة لحوم البشر، و “النفوس البدائية”. بدلًا من تعريف نفسه من خلال التفاعل الاجتماعي، يحاول مارلو خلق هويته بشكل فردي، من خلال الخبرة التكنولوجية – عمله “يعجبني من يوجد في العمل،” يقول، “الفرصة لتجد نفسك. واقعك الخاص – لنفسك، وليس للآخرين – ما لا يمكن لأي إنسان أن يعرفه على الإطلاق.”
في أعلى النهر، حيث يذوب المألوف في ظلام المجهول، يمثِّل كتاب جيد الاستخدام عن الملاحة البحرية في مركز تجاري مهجور أعلى قيم الحضارة، “واهتمام صادق بالطريقة الصحيحة للذهاب الى العمل.”
بينما بتقدّم مارلو أعلى النهر نحو كيرتز والمحطة الداخلية، فإنه يترك الدلالات المألوفة للحضارة الأوروبية وبدلًا من ذلك يجد نفسه معزولًا بطريقةٍ أخرى، في قلب الظلام، “مقطوعًا عن فهم محيطنا.” كيرتز، موضوع مسعى مارلو، هو نفسه الرمز الأسمى للرواية للعزلة وقوتها التدميرية. معزولًا عن جميع القيود المجتمعية، يتمتع كيرتز بالحرية في اشباع شهواتهِ وعواطفه بلا حدود. يحكم في “عزلة تامة دون شرطي”، فهو قانون في حد ذاتهِ، “وليس لديه أي شيء على وجه الأرض يمنعه من قتل من يشاء”. ومع ذلك، كان كيرتز، من نواحٍ عديدة، ممثلًا للأفضل في الحضارة الأوروبية: متعلم، ذكي، مثالي، وفنّي، ومجتهد. يشير نزوله الى الوحشية الى مدى ضعف قشرة الثقافة والإغراءات التي يتعرض لها هو نفسه في عزلتهِ. وبهذا المعنى، فإنّ البحث عن كيرتز هو أيضًا بحث عن اكتشاف الذات.
ومن المفارقات أن معرفة مارلو الذاتية المتزايدة تزيد من إحساسهِ بالإنفصال عن الآخرين. عند عودته الى اوروبا من أفريقيا، امتلأت شوارع بروكسل “المدينة الكئيبة”، المزدحمة بالأشخاص الذين “تجاوزوا افكاري” “والمتطفلين الذين كانت معرفتهم بالحياة بالنسبة لي ذريعة مزعجة“.
في عزلته، يشعر مارلو وكأنه محارب قديم يعود الى الحياة المدنية، معزولًا بسبب تجاربه في الحياة على الحافة.
على الرغم من أنّه يشك في امكانية نقل هذا المعرفة شفهيًا، إلّا أن رواية مارلو لقصتهِ في “قلب الظلام” هي عمل إيماني، سواء كان إيمانًا بامكانية التواصل البشري أو مجرد إيمان بقول الحقيقة كشرط المعنى الفردي لمن يكره الكذب حيث يترك غامضًا في النص. آخر عمل روائي لمارلو هو أن يروي كيف اختار عدم قول الحقيقة في رفضه رواية قصة كيرتز “للمقصود”، يعترف “أنني لم استطع أن أخبرها، كان يمكن أن يكون مظلمًا جدًا، مظلمًا جدًا تمامًا.”.