رحلة إلى جهنم
(مقطع مسلسل من رواية قنابل الثقوب السوداء)
ملحوظة: نُشرت عن دار كتبنا عام 2019
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن ٢٤ فبراير ٢٠٢٥
كانت الرحلة إلى القمر هي الأمل المشرق للبشرية،وهكذا اكتظت أرض القمر بأكثر من ثلاثة آلاف من أبرزالتقنيين الفضائيين، الذين كانوا من خيرة الخبراء فيهندسة الفضاء والتصميمات الفضائية. بينهممجموعة من البروفيسورات الحاصلين على جوائزنوبل، وكل واحد منهم كان يحمل عبئا ثقيلًا فيمشروع قد يغير مستقبل البشرية. تسلّق هؤلاءالعلماء حبلي السماء عبر المصاعد الفضائية التيكانت تعمل بنظام هوائي، مما جعلها صعودًا سهلًاكما لو كانوا على قطار سكة حديد، وكانت كل مركبةمضغوطة بعناية لتوفر أجواء من الراحة والتأمين.
بينما كان بعض العلماء قد تسلّقوا قبل ذلك بوقتطويل، كانت الغالبية العظمى قد تسلقت حديثًا بناءعلى دعوة جاك، ذلك العبقري الذي دعا الجميعللانضمام إلى بناء محطات ليزرية على سطح القمروتنفيذ مشروع “ناسا” الذي بدأ منذ فترة قصيرة. كانجاك ينادي عبر شاشات التلفاز، داعيًا جميع الخبراءللتوجه إلى القمر، حيث كانت هذه هي معركتهمالحقيقية. كان صوته يتردد في العالم، يحثهم علىالتوحد والانضمام لمهمتهم العظمى: “تسلّقوا حبليالسماء، اصعدوا سلم السماء، اتحدوا هناك، نريدالهيليوم-3، نريد أن نكمل بناء المحطات الليزريةالعملاقة“.
وصلوا أخيرًا إلى القمر، حيث كانت الأرض تحتهممجرد نقطة زرقاء بعيدة، وبدأ العمل على التنقيب فيتربة القمر بحثًا عن هيليوم-3. هذه المادة، التي كانتتُعدّ مكونًا أساسيًا للطاقة المستقبلية، ستكون سرتقدم البشرية. بالإضافة إلى ذلك، كانت توجدالعشرات من الروبوتات المتطورة التي تعمل على جمعالخامات المختلفة. كانت هذه الروبوتات تُرسل الخامإلى مراكز الخبراء لاستخلاص الهيليوم-3 منه، بينماكانت المجسات الفضائية تساعد في التوغل إلىأعماق التربة القمرية.
***
بينما بدأ العمل الجاد على سطح القمر، كانت هناكالعديد من التقنيات المتطورة التي تمّ تصميمهاخصيصًا لهذه الرحلة الفضائية العظيمة. أولى هذهالتقنيات كانت المحطات الشمسية التي تمّ نشرها فينقطة استواء القمر. كانت هذه المحطات الشمسية قدتم تطويرها بواسطة مجموعة من الروبوتاتالمتخصصة في صناعة الخلايا الشمسية النانوية،التي تعمل على تحويل أشعة الشمس إلى طاقةهائلة. كانت المحطتان الشمسيّتان اللتان تمّ بناؤهماتعملان بطاقة تيرا وات واحدة، مما يضمن إمدادالطاقة اللازمة لجميع العمليات على القمر.
ثم كانت هناك تكنولوجيا الاندماج النووي، والتيكانت تمثل جزءًا محوريًا من المشروع. في المناطقالمظللة من سطح القمر، حيث يتواجد الهيليوم-3، كانمعظم الروبوتات يعملون بشكل مستمر لاستخراجهذا العنصر الذي يعدّ ضروريًا لعملية الاندماجالنووي.
لكن المشكلة كانت أن تركيز الهيليوم-3 في تربة القمركان ضعيفًا جدًا، مما جعل المهمة صعبة. كان يتعينعلى الروبوتات نقل أطنان من المواد القمرية إلى مراكزاستخراج الطاقة، حيث كان الخبراء فيزياء النوويةيقومون بفصل الهيليوم-3 من التربة. وكانت كل عمليةاستخراج تتطلب جهدًا هائلًا، حيث كانت المجساتتحدد مكان الحفر، ومن ثمّ تقوم آلات الحفر بحفرأعماق تتراوح بين خمسة سنتيمترات إلى 120 سنتيمترًا لاستخراج ما يمكن من المادة الثمينة.
وفي الوقت نفسه، كانت محطات الليزر تتخذ مكانهاعلى سطح القمر، حيث كان العمل على بناء سبعمحطات ليزرية مستمرًا. كان الهدف من هذه المحطاتهو إرسال حزم مستمرة من الليزر على مدار اليومالقمري بالكامل. كل محطة كان يتم تصميمها بعناية،وكل واحدة منها تحمل شعار أحد القارات السبع، فيرمز لاتحاد البشرية في هذا المشروع العظيم. كانتمساحة كل محطة تصل إلى حوالي ثلاثين كيلومترًا،ما يعكس حجم وتعقيد هذه المهمة.
***
بعدما تمّ وضع خطة العمل بالكامل وبدأت الأمورتسير على نحو جاد، أصبحت جميع الأنظار متجهةنحو تحديد طاقم الرحلة الذي سيكون على عاتقهتنفيذ هذه المهمة الفضائية العملاقة. لم يكن الأمرمجرد اختيار للأفضل، بل كان له دلالات سياسيةودبلوماسية كبيرة، كما كان يحمل بين طياته رسالةللعالم كله.
في الاجتماع الذي عقدته وكالة ناسا، كان جاك يتقدّمالجميع بحماسة عالية، مستعرضًا الخيارات المختلفة. ورغم أنّ فكرة اختيار طاقم أمريكي محض كانت قدتبدو مغرية للبعض، إلّا أن جاك كان له رأي مختلف. نظر إلى الحضور وقال بصوت حازم: “لا يمكن أنتكون هذه الرحلة مجرد مسألة تخص أمريكا فقط. نحن نواجه تهديدًا عالميًّا، ولا بد من مشاركة الجميعفي هذه المعركة.”
كانت هذه الجملة بمثابة الشرارة التي أثارت نقاشًاحادًا في الاجتماع، حيث اعترض بعض الحضور علىهذه الفكرة بشكل علني، خاصةً في ما يخص تضمينرواد فضاء من دول مثل اليابان وروسيا والصين،الذين حملوا في ذاكراتهم تاريخًا مليئًا بالعداءوالتوترات السياسية.
لكنّ جاك لم يتراجع عن موقفه. أضاف: “إنّ مشاركةهذه الدول ليست مجرّد خطوة دبلوماسية، بل هيخطوة ضرورية لضمان سلامة البشرية جمعاء. إذاتذكرنا ما حدث في الماضي، سنعرف أنه لو لم نتحدحينها لما كانت لدينا فرصة للنجاة. نحتاج إلى أننُعلم الجميع درسًا واحدًا: إذا اتحدنا في الفضاء،سنكون أقوى على الأرض.”
حاول الرئيس تحجيم النقاش قائلاً: “جاك، هل تعتقدحقًا أن اليابان ستنسى ما فعلناه بها؟“
أجاب جاك بثبات: “نعم، أعتقد أننا يجب أن ننسى. ننسى عندما نتعظ من دروس الماضي. جميعناأخطأنا، واليوم فرصتنا للمصالحة والتعاون من أجلالبقاء. لا داعي للمزيد من الصراع.”
هذه الكلمات كانت نقطة حاسمة في تغيير مسارالنقاش، مما دفع بقية الأعضاء إلى قبول الفكرة. أُقرّتالتوصية باختيار طاقم متنوع يمثل دولًا من مختلفالقارات، حيث تم تضمين اليابان وروسيا والصينجنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة. كانت تلك رسالةقوية للعالم كله: “إنها رحلة للبقاء، وليست صراعًاجديدًا“.
لكن الحوار لم يتوقف عند هذا الحد، حيث كان منالضروري تحديد الكفاءات التقنية التي يمكنهاالتفاعل مع التحديات الفضائية الكبرى. وبحسبخطة جاك، كانت التكنولوجيا ستعتمد على أقوىالأجهزة والمعدات المتاحة في العالم، لتكون جاهزة لأيةمفاجآت قد تطرأ أثناء الرحلة.
بعد النقاشات، قرر الجميع أن يتم الإشراف علىمحطات الليزر الشمسية بواسطة الفرق اليابانيةوالروسية، حيث أبدع هؤلاء في مجال التكنولوجياالمتقدمة. أما فيما يخص المفاعلات النووية، فقد تمّاختيار مجموعة من الخبراء الروس، الذين اشتهروابعبقريتهم في الفيزياء النظرية.
وفي لحظة حزينة، وبعد أن انتهى النقاش وأعلنالجميع موافقتهم على القرار، بدأ جاك يتذكر ما كانتعليه الأرض منذ سنوات قليلة فقط، وكيف أنّ هذهاللحظة كانت تحتاج إلى تضحيات أكبر ممايتصورون.
ثمّ انتقل الحديث إلى الجزء الأكثر تعقيدًا في المهمة: كيف سيُشرف هؤلاء على إدارة أجهزة الدفع المختلفة،وكيف سيتم استخدام محطات الليزر لدفع الشراعالشمسي؟ كانت العملية تحتاج لتنسيق دقيق بينالتخصصات المختلفة، لكن الجميع كان متحمسًالتحقيق الهدف المشترك.
وأخيرا، وفي خضم هذا التحليل المعمّق للتفاصيلالتقنية، بدأ الجميع ينسحب تدريجيًا من الاجتماع. ولكن جاك كان لا يزال يراقب الأفق في صمت، كمنيختزن في داخله الكثير من الأسئلة التي قد لا تجدإجابة شافية، لكنه كان يعرف أن الجميع كان في هذهالمهمة لأجل غاية واحدة: “إنقاذ البشرية.”
***
بعد أن حسم جاك أمره، تواصل مع فريقه ليُعلمهمبالخطوات القادمة، وقرر أن الوقت قد حان لتحريكالعملية بالكامل. لم يكن أمامه خيار آخر، الرحلة كانتبحاجة لأن تبدأ، والنقاط الحساسة التي تم التوافقعليها يجب أن تُنفذ فورًا. كان جاك يطمح أن يجمعتحت مظلته أكفأ العقول من مختلف أنحاء العالم، دونالنظر إلى التوترات التاريخية والسياسية بين الدول. “الرحلة هي أمل البشرية، وليست ملكًا لدولةبعينها“، هكذا كان يردد دائمًا.
في اجتماع حاسم مع فريق ناسا، حيث كان يجلسحول الطاولة كبار العلماء والخبراء، أعلن جاك عنقراره الجريء: “هذه الرحلة ستشمل الجميع، ولنيكون فيها مكان للسياسات القديمة“. قد يُنظر لهذاالقرار على أنه شجاعة، وقد يعتبره آخرون تهورًا، لكنهكان يؤمن أن هذه هي الفرصة الوحيدة لوضع نهايةللصراع، ولو لعدة سنوات.
ثم بدأ في عرض خطة الرحلة. “الطاقم يجب أن يتكونمن جنسيات متعددة: أمريكي، روسي، ياباني،صيني، وحتى عربي. هؤلاء هم الأكثر كفاءة، وهموحدهم القادرون على النجاح في هذه المهمة“، قالجاك، وهو يلتفت إلى الحضور الذين كانوا ينظرونإليه بعيون مشدوهة.
كان الجدل داخل الغرفة قد بدأ يدب في أرجائها،فالعالم ما زال يعاني من التوترات السياسية، وكان منغير الممكن أن يغفل أحد عن التاريخ الدامي الذي جمعبين بعض هذه الدول. ومع ذلك، كان جاك على يقين منأن المهمة أكبر من كل الخلافات، وأنها قد تكون المفتاحللسلام.
وبينما كان الجميع غارقين في النقاش، دخل الرئيس،الذي بدا مترددًا في اتخاذ قرار حاسم في هذا السياق. قال له جاك بثقة: “نعم، يجب أن نتخطى الماضي. أعتقد أنه حان الوقت لنصنع مستقبلاً أفضل. هلسنظل عالقين في دوامة الحروب والمنافسات، أم نبدأبناء شيء عظيم للبشرية؟“
وأعلن جاك تفاصيل فريقه المختار: “سأكون قائدالرحلة، والروس سيتولون المهمة النووية، بينمااليابانيون هم الأقدر على التعامل مع تقنيات الليزر. أما العرب، فسيكون لهم دور أساسي في دعم الأنظمةالرقمية والاتصالات. ما رأيكم؟“
لكن على الرغم من الموافقة المبدئية، كانت بعضالهمسات تدور بين أعضاء الفريق. لم يكن الجميعمتفقين مع الفكرة. كان هناك حديث عن مدى صعوبةإشراك بعض الدول مثل اليابان، حيث حمل الماضيالثقيل من التوترات بين الولايات المتحدة واليابان، لكنجاك، الذي كان يتنفس بعمق، قطع الحديث قائلاً: “إذاأردنا فعلاً بناء شيء أكبر، يجب أن نغفر ونبدأ مننقطة جديدة“.
***
بينما كان الاجتماع يتواصل، نظرت مجموعةالحضور إلى بعضهم البعض في صمت، حيث بدأوايُدركون تباعًا أن ما قاله جاك ربما كان صحيحًا. شعورمن الحيرة والندم تملّك الجميع، وكأنهم كانوا فيحاجة إلى قوى إضافية، لحظة حاسمة في رحلتهمالتي لا عودة عنها.
نهض رئيس ناسا فجأة، وتحرك مهرولًا نحو جاك،يناديه: “جاك، جاك!”
أجاب جاك في هدوء، “لبيك، سيدي الرئيس.”
قال الرئيس، “لا تغضب، أرى في عيونهم الحسرةوالندم… ارجعْ، واخترْ ما تشاء.”
جاك وقف لحظة، ثم أجاب بصوت متأمل،
“سأرجع،” ثم سكت لحظة، وكأن كلمات كثيرة تملأعقله، “لكن هناك شيء لطالما أردت أن أسالك إياه، منذزمن، ولم أكن أجرؤ.”
أجاب الرئيس بلطف، “سلْ، لا تتردد.”
جاك بصوت خفيض، “أين مجموعة ذرات الرابيديومالثلاث؟“
الرئيس تردد قليلاً، ثم أجاب:
“لا يعلم أحد مكانها سوى الرئيس الأمريكي ووزيرالدفاع ووزير المخابرات، وأنا.”
جاك، وقد بدا عليه الاستفهام، سأل: “أين هي؟“
أجاب الرئيس بتأنٍّ،
“على الرغم من أنه ليس لدي تصريح بإخبارك، لكننيمتأكد أنهم لن يغضبوا إن أخبرتك. إنها في نفق تحتالأرض، حيث يوجد ثلاثة أجهزة ليزر عملاقة، وثلاثةمن أفضل خبراء فيزياء النووي، وثلاثة آخرون كفريقاحتياطي.”
جاك بدت عليه علامات الاستفهام والقلق، فقال مستاءً:
“كيف تجعلون مصير البشرية في أيدي هؤلاءالخبراء فقط؟“
الرئيس، وقد شعر بثقل السؤال، أجاب مطمئنًا:
“لا يعلم هؤلاء الخبراء مكانها في النفق. هم فقطمكلفون بمهمة محددة. في حال احتجنا إليهم،سنرسل لهم ذرات الرابيديوم ليقوموا بضربهابالليزر.”
جاك تنفس بارتياح وقال:
“هذا أفضل. لكنني بحاجة إلى ذرات الرابيديوم،سيدي الرئيس، الآن.”
أضاف جاك، بعد أن تراجع قليلاً في مكانه:
“هيا بنا إلى المجلس لنكمل حديثنا.”
في المجلس، عاد جاك وجلس وسط الحضور قائلاً:
“لقد فكرتُ كثيرًا في الرحلة، وأعددتُ لها كلالتجهيزات. وضعتُ الخطة كاملة، ولم أنسَ الطاقمالذي اخترته. هذه هي التفاصيل في هذه الورقة.”
وهو يقرأ قائمة الطاقم بأصوات هادئة ومتسلسلة:
جاك، قائد الرحلة، للإشراف على جميع العمليات.
“جوليا“، الروسية، لقيادة المركبة الرئيسة.
“كازو“، الياباني، للإشراف على وحدة الخدمة.
إيريكا 300، الروبوت الياباني، للإشراف على الشراعوالجهاز الشامل وأداء وظائف السُبات.
أما الطاقم الاحتياطي، فقد ضم:
فرد ياباني، فرد روسي، فرد أمريكي، فرد إيطالي.
فريق الدعم: أربعة روّاد من جنسيات مختلفة: روسي،صيني، أمريكي، وعربي.
توقف جاك لحظة، وخيم الصمت على الجميع، قبل أنيهمس أحدهم:
“هل سيأتون هؤلاء جميعًا؟ سيدخلون هنا، ويشرفونعلى مراكز اتصالاتنا، مراكز انطلاق صواريخنا…”
جاك نظر إليه بنظرة حادة، ثم قال ببرود:
“هل لديك اعتراض؟“
ثم أكمل حديثه،
“وسيتم دفع الشراع بواسطة سبع أجهزة ليزر،
كل جهاز عليه علم قارته،
وسيتم الدفع من على القمر بواسطة محطات ليزرخاصة بالقارات السبع.”
نظرات القلق بدأت تظهر على وجوه الحضور، لكنأحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.
“هل هناك أحد غير موافق؟“
لكن لا أحد رد، وصمت المكان لوهلة، حتى أكمل جاك: “سيدفع بإشرافكم، وإشراف اليابان، لأنكم الأقدر علىصناعة الليزر.
أما مفاعلات الانشطار والاندماج، فمعظمها تحتإشراف الروس لأنهم عباقرة في هذا المجال…”
لكنه توقّف فجأة، وتشنّج جسده، ثم انفجر باكيًابحرقة،
“رفقًا بي يا ولدي…”
قالها رئيس ناسا وهو يربت على كتفه بحنان، “فهمانيعيش بين أهل الخير من الجنّ.”
جاك تمالك نفسه، ثم أكمل بعصبية شديدة، “عباقرةفي الفيزياء النظرية…”
ثم، بلهجة حازمة، قال:
“موافقون؟“
ردّ الجميع بصوت واحد: “نعم.”
***
بينما كان الاجتماع مستمرًا في نقاشاته، كان فيمكان آخر، في بُعد آخر من أبعاد الكون الذي كشفتعنه نظرية الأوتار الفائقة. بُعدٍ غامضٍ، مظلمٍ، ربما هوما يُسمى بـ “بُعد الشيطان“. داخل غرفة صغيرةمحاطة بأجهزة شيطانية متطورة، كان “فهمان” يتصارع مع ذاته، في صراعٍ عميقٍ لا يمكن تفسيرهبكلمات. كان الجسد ينتفض هنا وهناك، وكأن هناكشيئًا غريبًا يجري في كيانه. الطبيب الذي كان يراقبحالته من بعيد، لم يستطع تفسير ما كان يحدث له، إذكانت هناك بعض الحالات التي لم يسبق له أن شهدهامن قبل.
في عينيه كانت نظرات حائرة، بين حلم واقعي وفكرةغامضة، وبينما هو غارق في تفكيره، شعر الأطباءوكأن “فهمان” يحاول الهروب من شيء ما. هل هوهروب من الذات؟ أم هو تماهي مع المجهول الذي يراهفي أحلامه؟ كانت أفكار “فهمان” تتنقل بسرعة داخلرأسه، وكأنها صورة متحركة من الأحداث التي مرت بهمنذ سنوات، وكأن الزمان والمكان يتداخلان في لحظةواحدة.
تخيل أن تكون في مكان بعيد جدًا، حيث لم يعد للزمانأي معنى. كان “فهمان” يدرك أن هناك أمرًا أكبريحدث، وأنه ليس مجرد جندي في تلك اللعبةالفضائية، بل كان جزءًا من شيء ضخم، شيء لم يكنليعلمه أبدًا لو لم يكن قد مر بهذه التجربة.
وبينما كان عقله في دوامة من الأفكار، شعر بشيءآخر، صوتًا يهمس له من الداخل. “أنت جزء منالصورة الكبرى، أنت جزء من الحل، ولكن هناك حقيقةأخرى يجب أن تعرفها“. تلك الكلمات كانت تثير فيهفضولًا كبيرًا، وهو لا يعلم حتى الآن ما هي الإجابة. لكن شيئًا ما في أعماقه كان يقول له أن كل شيءسيصل إلى نهايته قريبًا.
وكان هناك شيء في قلبه يخبره بأن تلك اللحظات،رغم غرابتها، هي التي ستحدد مصيره. ما الذي يعنيهأن تكون هنا في هذا المكان الآن؟ هل كان مجرد صدفعابرة، أم أن هناك قوة خفية تسوقه نحو هدف أكبر؟كانت أسئلة كثيرة تراوده، لكن الإجابة الوحيدة التيكان يشعر بها هي أنه لا يمكنه الهروب من هذه المهمة.