قراءة في كتاب “من عيون القلب والروح“
لقدس الأب ابراهيم طنّوس داود
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
كان قد صدر مؤخرًا أي في عام 2025 بالتحديد، كتاب “من عيون القلب والروح” من تأليف قدس الأب المرحوم ابراهيم طنّوس داود الذي رحل إلى الأخدار السماوية قبل بضع سنوات حيث كان قد كتب مادة الكتاب في السنوات الأخيرة من حياته، وكان هذا الكتاب بمثابة سيرة ذاتية (autobiography) كتبها المؤلف عن نفسه وحياتهِ، والتي تتضمن تأملات في الماضي وانعكاسه على الحاضر، وغير ذلك من الصيغ التي تنضوي تحت بند الأدب البحث عن الذات وكشفها للنفس والآخرين، ذلك أنّها تقدّم صورة ذاتية مختلفة الأبعاد لشخصية المؤلف في مراحل حياتهِ كعلماني أولًا ثم ككاهن لاحقًا، وبالتالي فإنّ هذه السيرة الذاتية هي عبارة عن سرد متماسك منطقي لحياة الكاتب المرحوم الأب ابراهيم داود، مع التركيز على التأملات والانطباعات ذات الأبعاد المختلفة، وعلى المعنى الكامن في حياة الكاتب أمام خلفية اجتماعية وثقافية واقتصادية أشمل منها.
وهذا النوع من السيرة الذاتية التي كتبها المرحوم الأب ابراهيم كما سنفصِّل لاحقًا، يسميه النقّاد “السيرة الحميمة” لأنها تركّز على الجوانب الشخصية أكثر من اهتمامها بالمظاهر أو الظواهر العامة. وسوف نرى فيما بعد أن الأب ابراهيم قد عُنيَ في كتاب سيرته الذاتية هذا في استخدام كل الوسائل الممكنة لكي يعيش بكل جوارحهِ في عالم الشخصيات التي يكتب عنها، ولا يترك شاردة ولا واردة إلّا ويحاول تحليلها وتمحيصها وربطها بأفكار الشخصيات وأقوالها وأفعالها، وذلك من منظوره الخاص. فالسيرة في نهاية الأمر صورة شخصية زاخرة بكل التفاصيل الممكنة.
يستهل المرحوم قدس الأب ابراهيم داود كتاب سيرته بحديثه عن تهجيره وهو طفل مع عائلته من قريته ومسقط رأسه إقرث عام 1948؛ ويصف المعاناة التي تعرّض لها مع عائلته نتيجة التهجير، ومن ثم انتقالهم للجوء في قرية الرامة والانتقال من بيت إلى بيت هناك، وفي هذا السياق يذكر مراحل دراسته الابتدائية إلى أن أنهى دراسته الثانوية أيضًا هناك في الرامة وله من العمر سبع عشرة سنة وأربعة أشهر، فقد اتّضح له كما يشير إلى أنّه الأصغر سنًّا بين زملائه في الصف. ويضيف الأب ابراهيم أنّه حين كان في الصف العاشر وكان من بين الطلاب الذين لم يسددوا القسط الدراسي، قام الأستاذ المرحوم شكيب القاسم بدفع المبلغ المطلوب، وعندما أخبر الشاب ابراهيم والده بما جرى في المساء، أعاد الوالد إلى الأستاذ شكيب ما دفعه، شاكرًا له معروفه؛ ويذكر الأب ابراهيم أنه كان لا يزال تلازمه هذه الحادثة وينفعل كلما تذكرها وشعر دائمًا بالتقدير والوفاء للمرحومين الأستاذ شكيب القاسم مدير المدرسة آنذاك، ووالده الذي تدبّر أمره في تمكنه من إعادة المبلغ.
ويتحدّث قدس الأب المرحوم ابراهيم داود في الفصل الثاني من كتابهِ عن ذكريات الدراسة ومشاعره الأولى في الرامة، وعن علاقتهم الطيبة هناك مع جيرانهم.
ويتابع المرحوم الأب ابراهيم في الفصل الثالث من الكتاب، بإخبارنا عن انهائه مرحلة الدراسة الثانوية عام 1961 في الرامة، وبعدها قرّر والداه أن ينتقلوا للسكن في حيفا حيث سكنوا في غرفة مستأجرة من وقف الروم الكاثوليك. ويحدّثنا الأب ابراهيم عن شقيقتيه فهيمة ووطفى، وحياة العائلة في حيفا بشيءٍ من التفصيل.
وبعد تخرّجه من المدرسة الثانوية يذكر أنّه لم تُقبَل طلباته للعمل في المعارف، منوّهًا أن كل الذين تقدموا بطلبات للعمل هناك من زملائه قُبِلوا. ويشرح لنا المؤلف أنّه كان قد تسجّل للجامعة العبرية لدراسة الحقوق وتمّ قبوله للدراسة ولكن بعد التشاور مع والده رأى أنه لن يتمكن من الدراسة في الجامعة بسبب الأوضاع الماديّة. ويأتي على ذكر عمله كمعلم في المدرسة الأسقفية الابتدائية في شارع اللنبي براتب قدره 80 ليرة شهريًا ويشير إلى أنّ هذا المبلغ كان مبلغًا بخسًا في تلك الأيام. ويخبرنا أنّ الله قد منحه صوتًا جميلًا، مما شجّعه أن ينتسب إلى جوق الترنيم الكنسي الكاثوليكي في كاتدرائية مار الياس، بقيادة المرنّم الأول آنذاك المرحوم الياس نجيم. ويؤكد الأب ابراهيم في الفصل الرابع من الكتاب أنّ رغبته في دراسة موضوع الحقوق ظلّت تساوره بشدّة. لكنه لم يتمكن من تحقيقها بسبب الأوضاع المادية الخانقة. وبذلك قرّر دراسة موضوع العمل الاجتماعي (Social Work) في ذلك الوقت (1963) لكون وزارة الشؤون الاجتماعية كانت تقدّم منحة لكل من يريد دراسة هذا الموضوع لتغطية مصاريف الدراسة والإقامة في مساكن الطلاب في القدس.
ويذكر الأب ابراهيم أنّه في السنة الجامعية الثانية له (1965/1966) مرضت أمه وكان وضعها صعبًا مما استدعى علاجها في مستشفى “رمبام” في حيفا، وكان همها الأوحد أن تفرح ويتزوج ابنها ابراهيم وهي بعد على قيد الحياة. وكان ابراهيم قد أخبر والده وشقيقتيه برغبته في الزواج من فتاة تُدعى أوديت من قرية فسوطة. وبطبيعة الحال، تمّ الزواج وكان إشبينه في الإكليل صديقه وابن اقرث شكري عطاالله. وعند هذه المعلومات عن كاتب السيرة الذاتية، يجدر بنا الإشارة إلى أنَّ الكاتب إنما كتب تلك السيرة من أجل أن يوجد رابطة ما بيننا كقرّاء وبينه كراوٍ نتعاطف معه، وأن يحدثنا عن دخائل نفسِهِ وتجارب حياته، حديثًا يلقى منّا أذنًا واعية، لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم يجهله، ويوقفنا من صاحبهِ موقف الأمين على خباياه، وهذا شيء يبعث فينا الرضى، وتفهُّم الغايات المرجوة التي تكتب السير الذاتية من أجلها. فكلّ سيرة فإنما هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد، فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج، واصبحت في نفس صاحبها نوعًا من القلق الفني، فإنّه لا بد أن يكتبها. وهكذا يخوض الأب ابراهيم غمار الحديث عن مراحل مختلفة من حياتهِ، ففي الفصل السادس يحدثنا عن اكليلهِ في الكنيسة وقيام المطران جوارجيوس حكيم بمراسم الإكليل، ثمّ يوافينا في هذا الفصل بأنّ عروسه أوديت كانت قد أنهت دراستها في دار المعلمين في يافا، عام 1963. وعُيّنت معلمة في كل من قرية جديدة لعام 63/64، وفي العامين التاليين نُقِلَتْ الى مدرسة حرفيش وبعدها عُيّنت في الفريديس، وعملت هناك مدة أربع سنوات. وقد تضمّن حديثه هنا عن نشاط وأمانة واستقامة زوجته وكونها مثالًا للمعلمة والمربية المتميزة المخلصة والمُحِبَّة لرسالتها وتلاميذها حيث اشتغلت في سلك التربية والتعليم مدة اثنين وثلاثين عامًا. وقد تميّز هذا الفصل بالذات بكونهِ يشتمل على معلومات عن سنته الأولى في الزواج والسنة الجامعية الأخيرة له.
ويزوِّدنا الأب ابراهيم في الفصول الأخيرة من الجزء الأوّل من الكتاب بمعلومات عن أعمالهِ ومن ضمنها على التوالي: عمله في مستشفى الأمراض العقلية في عكا، ثم العمل في مراقبة سلوك الراشدين في حيفا وذكرياته في مراقبة السلوك مشيرًا الى كونه سعيدًا في عمله هذا.
ومن حيث كونهِ مختصًا أكاديميًا في العمل الاجتماعي، فقد أخذ التفكير في اتجاه عمل آخر، فقد قُبِل للعمل كمستشار تربوي مع الطلبة في الكلية العربية الأرثوذكسية في حيفا، وبعد انتهاء عمله في الكلية الأرثوذكسية، عاد الى عمله السابق في مراقبة السلوك، لأنه كان في اجازة بدون راتب.
أمّا في الفصل العاشر من الكتاب الذي يختتم به المؤلف الجزء الأول، فإنّ الكاتب الأب ابراهيم يأتينا بمعلومات مفصلة عن عائلته: الخورية أوديت، ام اشرف وعن أولادهِ أشرف وعادل وسوار وأمجد مبيّنًا معاناة زوجته الخورية أوديت وآلامها بفعل مرض الباركنسون والنسيان ومشيدًا بعمل وأخلاق مساعدة الخورية، “ديبيكا” السيريلنكية. وقد أشار الى أولادهِ فيما يتعلق بتعليمهم وحالتهم الاجتماعية ومجال أعمالهم ومهنهم.
ويبدأ الأب ابراهيم داود الجزء الثاني من كتابه بتعريفنا أنّه في ذلك الوقت قد بلغ الثلاثين من عمره، متزوج وأب لأربعة أولاد، وقد بدأ في حينه يشعر بصوت خفي في داخلهِ يدعوه أن يكون كاهنًا. ويقول هنا أنّه قد مرّت سنة كاملة على هذا الصوت الخفي الى أن اقتنع بفكرة الكهنوت واختمرت في داخله، وبالتالي وافقت زوجته الفاضلة التقية المؤمنة فورًا على ما أخبرها بهِ حيث أكدت له أنَّ هذهِ هي دعوة من الله ولا يجوز رفضها على حد وصفها كما يقول في هذا الصدد. وهكذا قدّم الأب ابراهيم طلبًا خطيًّا لسيادة المطران وقُبِل طلبه ودرس لمهمة الكهنوت أقل قليلًا من ثلاث سنوات. وفي 28/5/1978 رُسِم شماسًا انجيليًا، وبعد شهرين ونصف تم رسامته كاهنًا بيد سيادة المطران مكسيموس سلوم في كنيسة القديس يوسف بمدرسة المطران الثانوية في الناصرة. وفي اليوم التالي أقيم قداس إلهي في كنيسة القديس انطونيوس الكبير في المكر بحضور سيادة المطران سلوم وجمهور غفير من ابناء الرعية والمدعوين.
ومن الجدير الإشارة إليه أنَّ الأب ابراهيم قد عمل مستشارًا تربويًا في مدرسة المطران الاكليريكية في الناصرة. وبعد حصول عدة أزمات مع الادارة هناك وانتهاء عمله جاءه عرض للعمل في الاستشارة في ثانوية مار الياس في عبلين. وكان أيضًا سيادة المطران بطرس المعلم قد استدعى الأب ابراهيم ليكون رئيسًا للديوان في المطرانية. ولكن بعد مدة من الزمن ونتيجة شعوره بالإرهاق اتخذ قرارًا بتركِ المطرانية والعودة الى وظيفته السابقة وعاد الى كلية مار الياس واشتغل أربع سنوات أخر، وخرج الى التقاعد المبكر بتاريخ 1/9/2004 بعد انهاء ستة عشر عامًا من العمر، شاعرًا بالرضا والقناعة كما يقول في هذا الشأن لاسيما وأنّه يذكر حادثة انسانية تجاه أحد الطلاب وقد أعاد لهذا الطالب اهتمامه بالمواد الدراسيّة، واعادته الى نهجه الحقيقي الأصيل، وتخرجه من المدرسة شاكرًا ومقدّرًا الأب ابراهيم لعنايته به ورعايته له كطالب أصبح له مستقبل زاهر ويعيش مع زوجة واولاد في دارٍ بناها ليسكن فيها مع عائلته بسلام وسعادة معترفًا بفضل الأب ابراهيم ذي النزعة التربوية الانسانية.
ويسترسل الأب ابراهيم في الحديث عن أزمات في الأبرشية مشيرًا الى عدة مشاكل أدت الى اختلافات وخلافات، ومن ضمنها توتّرات حدثت تمثّلت احداها بقرار ابعاده عن خدمة رعية كفرياسيف على خلفيات يطول شرحها وردت في كتاب الأب ابراهيم الذي خدم رعية المكر حين انتقل مع عائلته للسكن هناك بصورة دائمة.
وفي ختام الكتاب يتحدث الأب ابراهيم عن معاناته الصحية بخضوعهِ لعملية صمّام القلب في مستشفى الكرمل، وفيما بعد اجراء عملية جراحية له في مفصل الورك، علاوةً على الشجن الذي اعتراه نتيجة تعاطفه مع الحالة الصحية المؤلمة للخورية أوديت مما أثار فيه مشاعر الحزن والألم.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ كتاب “من عيون القلب والروح” الذي يُعتَبَر الى حدٍ كبير سيرة ذاتية للمرحوم قدس الأب ابراهيم داود، فهذا الإنسان الذي يترجم لنفسِه في هذا الكتاب كان ذا منزلة خاصةٍ في المجتمع، وبحكم كونهِ إنسانًا مثقفًا، وكاهنًا معروفًا، فقد كان يرمي الى انشاء هذا التعاطف بينه وبين القارئ، وأقام سيرته في بناء فني، لم يغفل فيه قيمة الأسلوب وتأثيره، وكان ماهرًا في الربط بين الصورة الداخلية لحياتهِ ومنعكساتها في الخارج، فهنالك تتم سيرة ذاتية مكتملة، وليس ثمة من سبب يحول دون تلقيها بالقبول باعتبارها ترجمة لحياة الكاتب كما يراها من منظوره ورؤيته للأمور.
ولا بُدَّ لنا في نهاية تعليقنا على هذا الكتاب أن نترحّم على قدس الأب المرحوم ابراهيم داود، سائلين الرب أن يكون مسكنه في الفردوس مع الأبرار والصدّيقين، وأن يسبغ عليه رحمته الفائقة، متمنين لعائلته الكريمة موفور الصحة ودوام التوفيق، وليبقَ ذِكْر الأب ابراهيم مؤبدًا.