محمد علي سعيد… الشاهد الحي على انبعاث الكلمة في أرضٍ لا تُنسيها الريح

Unnamed

 

بقلم: رانية مرجية

 

في زمن هشّ، تتهالك فيه المعاني، ويُغتال الأدب على موائد الاستعراض، يطلّ علينا اسم محمد علي سعيد، لا كمجرّد كاتب، بل كأحد أعمدة الذاكرة الفلسطينية الحيّة في الداخل. رجل ما استراح، ولا استقال من مسؤوليته، لا أمام اللغة، ولا أمام الإنسان.

 

ولد في زمن النكبة، وما زال يحملها في ملامحه، في إيقاع كلماته، في خفقة صوته حين يتحدث عن “شعب”، بلدته الأم، التي اقتُلعت من الجغرافيا لكنها استقرت في روحه. هو لم يكتب ليمرّ، بل ليبقى. لم يربِّ طلابه ليحفظوا، بل ليفكّروا. كان وما زال يؤمن أن الكلمة موقف، وأن المثقف الحقيقي هو من يبني لا من يهدم، من ينير لا من يتعالـى.

 

محمد علي سعيد ليس أديبًا عابرًا، بل مؤسّسًا صامتًا لنهضة أدبية فلسطينية محلية، لم تكن لتولد لولاه ولولا من ساروا على طريقه بشغف وإيمان.

 

وها هو في أواخر تموز 2025، يقف على مسرح قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الأرثوذكسية – حيفا، لا ليقرأ قصيدة، بل ليُكرَّم، أمام جمع محبّ، حمل إليه في تلك الليلة عبق الوفاء.

 

في أمسية نظمها كل من نادي حيفا الثقافي والمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني، كُرّم محمد علي سعيد على مجمل عطائه، بمناسبة صدور كتابه النقدي الجديد “قراءات في النثر الأدبي الفلسطيني المحلي”. كان الحضور كثيفًا، متنوعًا، لكنه متّحدٌ في محبته لهذا الرجل، الذي وهب نصف قرن من عمره للكلمة والناس.

 

تكريمه لم يكن رسميًّا فحسب، بل وجدانيًّا. كان أشبه بعودة الابن البار إلى حضن جماهيري يعرف قيمته، ويحمل له امتنانًا لا يُختصر في شهادات أو تصفيق.
كرّمه الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، وجمعية الشرق الثقافية ممثلة بمديرها رائف حجازي، وآخرون ممن أدركوا أن هذا الرجل لا يُنتظر حتى يرحل لتُمنح له الورود.

 

في تلك الأمسية، وقف على المنصّة الأدباء: ناجي ظاهر، د. ميساء الصح، عمر رزوق الشامي، مصطفى عبد الفتاح، فشهدوا للحبر والضمير. قالوا فيه ما يشبه التراتيل، ليس لأنه بحاجة لمديح، بل لأنهم يعرفون من هو. قالوا إنه حمل المشروع الثقافي الفلسطيني المحلي على أكتافه في زمنٍ كان فيه الخوف سيدًا، والهوية مهددة، واللغة تبحث عن منابر.

 

وفي كلمته المؤثرة، كشف محمد علي سعيد عن الجراح المخبّأة تحت الكلمات. تحدّث عن طفولته، عن والده المطارد، عن النزوح من شعب إلى طمرة، عن شقاء الذاكرة. كان صوته حزينًا لكن شجاعًا. قالها كما يقول العاشق: “أنتم أهلي”. فبكت القلوب قبل العيون، إذ لا يحتاج الصدق إلى زخرفة ليهزّ الوجدان.

 

محمد علي سعيد لا يُختصر بكلمة “مربٍّ”، ولا “شاعر”، ولا “ناقد”. هو حالة. ذاكرة حيّة تمشي على قدمين. خزان هائل من التجربة والمعرفة والنبل. من يقرأه، كأنما يعبر بوابة سرّية إلى وجع المكان وشرف الانتماء.
وكلّ تكريم يُمنح له هو تكريم لمرحلة، لجيل، لقضية، ولأسلوب في الحياة: أسلوب الشرفاء.

 

إن تكريمه اليوم، هو بمثابة رد اعتبار للثقافة الملتزمة، لتاريخ لم يُدرّس في الجامعات، بل عُلّم من خلال المواقف، في المدارس، والمقاهي، وصفحات الجرائد، وقصائد الحنين.
هو تكريم للّغة حين لا تُباع، وللأدب حين لا يُستغل، وللأقلام حين تقاوم النسيان بالحبر.

 

في هذا الزمن الرمادي، يبقى محمد علي سعيد شمعة في طريق غائم.
ويكفينا فخرًا أنه ما زال بيننا، يكتب ويعلّم ويشهد.
يكفينا أن بين أيدينا كتابًا جديدًا له، وسيرة لم تغلق بعد.
ونتمنى أن يبقى قلمه شاهدًا، لا على الماضي فقط، بل على الحاضر الذي يحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

جديد الأخبار
  • اعلان مربع اصفر
  • عكانت مربع احمر