لوحة شعرية في أبيات من القصيدة الدمشقية لنزار قباني
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
هناك الكثير من الشعراء عبر العصور قد نظموا قصائد فريدة من نوعها تتضمن أبياتًا من الشعر تجسِّد وتصوِّر لوحات شعرية أو لوحات صوتية (vocal poetic painting) ، وكأنّ الشاعر يرسم بالكلمات صورًا وأوصافًا تتكامل مع بعضها لتشكّلَ ظاهرةً فنيّةً يتخيّلها القارئ أو السامع بصورة تجعله يتماهى مع الكلمة وما يتداعى إلى فكرِهِ من حيثيات ذهنيّة وذوقية تترابط فيما بينها لتتراكم وتتآلف الكلمات الموحية بحيث يتفاعل القارئ أو السامع مع تدفّق وانسيابية المعاني والدلالات على جعل القلم بيد الشاعر كريشة الرسم في الفن التشكيلي. ومن خلال استمتاعي بقراءة شعر الكبير نزار قباني، لمستُ مثل هذه الأمور في العديد العديد من أشعاره التي يرسم فيها نزار لوحات صوتية شعرية تتَّسم بجمالية التوصيف، وبالتالي تؤدي بالقارئ أن يستجمع مكوّنات أبيات القصيدة النزارية أو جزء منها ذي نفس النزاري الخلّاب ليؤطِّر بها لوحة صوتية جديرة بالإشارة إليها وتحليلها ذهنيًا على الصعيدين الذوقي والعملي.
وفي هذا السياق، اخترت أربعة أبيات من “القصيدة الدمشقية” لنزار قباني التي رأيتُ فيها وكأنّها لوحة فنيّة صوتية مرسومة بالكلمات حيث أورد فيما يلي هذه الأبيات الأربعة التي استوقفتني وحفّزتني للتعليق عليها، وقد جاء فيها:
هذيدمشقُوهذيالكأسُوالراحُ
إنّي أُحِبُ وبعضُ الحُبِّ ذبّاحُ
جراحةُالقلبِتشفيبعضَمَنْعشقوا
وما لقلبي – إذا أَحْبَبْتُ جَرّاحُ
للياسمينِحُقوقٌفيمنازِلِنا
وقطةُالبيتِتغفوحيثُترتاحُ
طاحونةُالبُنِّجزءٌمنطفولتنا
فكيفَننسىوعطرُالهالِفواحُ؟
في هذِه الأبيات الأربعة التي اخترتها تتمظهر كل مركبات اللوحة الفنيّة التشكيلية بلغة الشعر التي تنطوي على وصفٍ شفّاف لحب الشاعر في أجواء دمشقية يحتسي فيها الشاعر المتكلِّم خمرة الحب معبِّرًا عن نشوتهِ بطعم الحب والعشق من خلال وضع كأس الخمر أمامه مترنِّمًا بلواعج حبِّه، وآثار عشقهِ وتداعيات ذلك على القلب الذي قد يشفى فيه البعض ممن عشقوا، لكنه كعاشقٍ يعاني في حبِّه، لا يرى في جراحة قلبهِ إذا انغمس بحب المعشوقة، علاجًا شافيًا له.
وفيهذينالبيتينالواردينأعلاهيتضحلناأنّالصورةالمرسومةبالكلماتفيهذهاللوحةالشعرية،وإنكانتملأىبالأخيلة (images) وفيها رؤية حسيّة ملحوظة، فإنّها لا تندرج إلّا في إطار اللوحة الصوتية الشعرية الظاهرة للسمع والعيان.
ويأتي نزار، باتّساع أفقهِ وجماليةِ تصويرِهِ إلى تأكيد ما يمتاز به الجو الدمشقي من عشق وافتتان أهل دمشق بزهور الياسمين وانتشار زينته في البيوت الدمشقية التي لا تستغني عن زراعة الياسمين لاستنشاق عبيره الفوّاح، والتمتع بمنظره الساحر، فالياسمين في منظور نزار قباني هنا له استحقاق في بيوت الدمشقيين حيث يشير بحنكةٍ وبراعة مبطّنة إلى رمزية الياسمين الذي يمثّل الجمال الحسّاس، الحب، النعمة، العبير، الأناقة، الذاكرة، الأمل الإلهي، الهناءة والسعادة السماوية، وكل هذا الترميز إنّما يعكس ما يمثّله الياسمين ويصورهُ من حيث المعنى والدلالة شكلًا ومضمونًا في عُرف ونظر أهل الشام كما يراها نزار قباني.
ويستأنف الشاعر في الشطر الثاني لهذا البيت بأن يرسم صورة حميمة للبيت أو المنزل الدمشقي خاصةً، لا بميزة الياسمين فيهِ فحسب، بل أيضًا للحياة الدافئة الاجتماعية حين يصوِّر القطة في المنزل وهي تنام مسترخية وآمنة في مكان مريح لها بين أفراد المنزل مما يوحي هذا المشهد الشعري بالإنسانية الفائقة نحو تربية الحيوانات الأليفة في المنازل، وتوفير الطمأنينة لها كجانب من الألفة والمحبة التي تصقل وتهذّب مشاعر وتعامل أفراد أسرة المنزل، كما يوحي ذلك للقارئ بمدى تصوير الشاعر للحياة الاجتماعية البيتيّة الحميمة، وما تضفيهِ من انعكاسات حياتية لافتة.
ويختم نزار قباني هذه الأبيات الشعرية بإرجاعنا إلى عهد طفولتنا الأصيلة بمعيشتها وعيشها البسيط، مستذكرًا كيفية وعادة استخدام الطاحونة اليدوية للقهوة أي البُن، تلك الطاحونة التي كانت جزءًا لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعية وبخاصة البيتية في كل البيوت في الشام وفي مناطقنا جميعًا تقريبًا، وهكذا يسود الأنس والأجواء المعطّرة برائحة القهوة أي البُن الممزوج بالهيل ذي الرائحة العطرية النفّاذة.
وكل هذا التوصيف يجعلنا، من خلال هذهِ الصورة الشعرية الفنيّة، أن نعود بالذاكرة إلى أيام الطفولة الجميلة التي كانت تعبق فيها البيوت والمساكن بتحميص وطحن حبوب القهوة التي ترمز إلى الدفء الاجتماعي البيتي والضيافة المستدامة بتقديم القهوة، بالإضافة إلى المسرّات البسيطة التي كانت وما زالت شاهدًا على أهمية التواصل بين أفراد المجتمع داخل البيت وخارجه.
وختامًا، آمل أن أكون قد أشرت ولو بإيجازٍ سريع إلى أبيات من الشعر الأنيق الذي يتّسم به شعر نزار قباني والذي يمكننا هنا أن نرى في كلماتهِ ودلالاتها التصويرية لوحةً متخيّلة يُسْتَوْجب للإشادة بها.