التحولات في السياسات الإسرائيلية باحتجاز جثامين الفلسطينيين
.
27/10/2025
تشير التحوّلات الأخيرة، خصوصًا بعد السابع من تشرين الأول 2023، الى تصعيد غير مسبوق في سياسة احتجاز الجثامين. تبين هذه الورقة أنه بخلاف النهج السابق، خلال الحرب الأخيرة تخلت السلطات الإسرائيلية بالكامل عن شرطها بوجود “قيمة تفاوضية” لاستمرار الاحتجاز، كما وسّعت هذه السياسة لتشمل فلسطينيين من مواطني دولة اسرائيل للمرة الأولى، في خطوة تعيد رسم حدود الصلاحيات الأمنية وتسقط التمييز السابق بين فئات الفلسطينيين.
لقراءة الملف بصيغة PDF اضغط/ي هُنا
تُركّز هذه الورقة على سياسات إسرائيل في احتجاز جثامين الفلسطينيين (باستثناء قطاع غزة) لأهداف التفاوض مع الفصائل الفلسطينية منذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين الأول 2023.
مقدمة
منذ تأسيسها، استخدمت إسرائيل احتجاز الجثامين كأداة للعقاب الجماعي بحق الفلسطينيين. ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه الممارسة من إجراء استثنائي يُنفّذ بشكل متقطّع إلى سياسة ممنهجة. خلال العقد الأخير، عزّزت إسرائيل هذه الممارسة التي تستند إلى أنظمة الطوارئ الانتدابية، وأقرّت سياسات حكومية تُجيز صراحةً احتجاز الجثامين لاستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات، خاصة في سياق صفقات تبادل الأسرى مع الفصائل الفلسطينية.
بحسب تقرير “دفئ أبنائنا” الصادر عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، فإن هذا الإجراء يحرم العائلات الفلسطينية من حقّ أساسي يتمثّل في دفن أحبائهم وفقًا لمعتقداتهم الدينية وتقاليدهم الثقافية، وينطوي عليه امتهان لكرامة المتوفى. كما واعتبرت شكل من أشكال العقاب الجماعي الأكثر تطرفًا والمحظورة بموجب القانون الدولي لا سيما حين يستخدم كورقة ضغط سياسية [1].
ففي سياق الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، تُخالف سياسة احتجاز الجثامين بشكل واضح أحكام القانون الدولي الإنساني، كما وردت في اتفاقيات لاهاي واتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة، واتفاقية “مناهضة التعذيب”، التي تُعد إسرائيل طرفًا فيه [2]. هذا وقد دعت لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، في توصياتها الصادرة في حزيران 2016، إسرائيل إلى إعادة الجثامين إلى عائلاتهم دون تأخير. وفي السياق ذاته، عبّرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في ملاحظاتها الختامية لعام 2022، عن قلقها العميق، وطالبت بإنهاء هذه السياسة بشكل فوري [3].
بالرغم من ذلك، تشير التحوّلات الأخيرة، خصوصًا بعد السابع من تشرين الأول 2023، الى تصعيد غير مسبوق في سياسة احتجاز الجثامين. تبين هذه الورقة أنه بخلاف النهج السابق، خلال الحرب الأخيرة تخلت السلطات الإسرائيلية بالكامل عن شرطها بوجود “قيمة تفاوضية” لاستمرار الاحتجاز، كما وسّعت هذه السياسة لتشمل فلسطينيين من مواطني دولة اسرائيل للمرة الأولى، في خطوة تعيد رسم حدود الصلاحيات الأمنية وتسقط التمييز السابق بين فئات الفلسطينيين.
احتجاز الجثامين: إطار القوننة
في سياق التصعيد الإسرائيلي بحق الجثامين منذ عام 2015 اتجهت الدولة إلى تقنين سياسة احتجاز جثامين الفلسطينيين، مُعلنةً استخدامها كأداة تفاوض سياسي بشكل صريح، حيث صيغ ذلك بقرار [4] صادر عن المجلس الوزاري المصغّر (الكابينيت) عام 2019، تحت عنوان “سياسة موحّدة للتعامل مع جثامين منفذي العمليات”، والذي حدد الجثامين التي يمكن احتجازها إلى ثلاث فئات: المنتمون لحركة حماس، منفذو العمليات المصنّفة “شديدة الخطورة” بغض النظر عن انتمائهم التنظيمي، والجثامين التي قد تستخدم في صفقات تبادل مستقبلية مع حركة حماس التي تحتجز بدورها جنودًا ومواطنين إسرائيليين.
بهذا القرار، جرى تحويل سياسة احتجاز الجثامين من إجراء غير مستقر إلى نهج قائم. وقد استندت الدولة في تقنينها لهذه السياسة إلى المادة 133(3) من أنظمة الطوارئ الانتدابية البريطانية لعام 1945، والتي تخوّل القائد العسكري تحديد مكان وزمان الدفن، وهوية من ينفذه، غير أن هذه المادة لم تنصّ على صلاحية احتجاز الجثمان بهدف التفاوض.
في السابق، تقدّمت منظمات حقوقية، من بينها مركز عدالة، بالتماس إلى المحكمة العليا في إطار ما عُرف لاحقًا بـ”قضية عليان الأولى”[5]، طاعنةً بعدم قانونية احتجاز الجثامين دون وجود نص تشريعي صريح يجيز ذلك، في حين أن الالتماسات قد تطرقت الى احتجاز جثامين لسكان القدس الشرقية والضفة الغربية. أيدت المحكمة هذا الموقف مبدئيًا، وقررت في حينه بأغلبية قاضيين ضد قاضي بأن أنظمة الطوارئ لا تخوّل السلطات العسكرية احتجاز الجثامين لأغراض تفاوضية.
غير أن هذا القرار لم يصمد طويلًا. ففي أعقاب التماس لاعادة النظر في القرار قدّمته النيابة العامة، عُقدت جلسة موسعة للمحكمة في إطار ما عُرف بـ”قضية عليان الثانية” [6]، انقلبت فيها المحكمة على قرارها السابق بأغلبية 4 قضاة ضد 3 قضاة، مانحةً تفسيرًا فضفاضًا للمادة موضع النزاع. اعتبرت المحكمة أن استعادة جثامين الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس تُشكّل “أولوية وطنية وأمنية”، ولذلك اعتبرت أنه يُمكن المساس المؤقت بكرامة المتوفى وحقوق عائلته. وبناءً على هذا التأويل، شرعنت المحكمة، بقرار أغلبية، احتجاز الجثامين كأداة تفاوضية من دون نص قانوني صريح يجيز ذلك. في حين أن المحكمة اعتمدت في انقلابها القانوني على تفسيرات وظيفية، واعتبرت أن غياب نص صريح لا يمنع من تأويل المادة بطريقة تمنح الغطاء القانوني للممارسات القائمة، لا سيما في ظل ظروف صنفتها أنها “طارئة” أو “أمنية”.
توسيع إضافي في معايير الاحتجاز
في آب 2021 صدر قرار مفصلي إضافي في قضية الشهيد أحمد عريقات، تخلله تحوّلات قضائية مهمة مهّدت لتوسيع سياسة احتجاز الجثامين [7]، حيث رفضت المحكمة العليا التماسًا قدّمه مركز عدالة للمطالبة بالإفراج عن جثمان عريقات، مُحاججًا بأنه لم يكن منتميًا لأي تنظيم ولا يقع في أي معيار من المعايير التي حددها قرار “السياسة الموحّدة” الصادر عن الكابينيت.
إلا أن المحكمة، ورغم غياب قرار حكومي واضح باحتجاز الجثمان في حينه، قررت رفض الالتماس. هذا الرفض يُشكّل توسيعًا فعليًا لمعايير الاحتجاز، ومنح المحكمة غطاءً قانونيًا لممارسات لم تكن مشمولة أصلًا في القرار الحكومي. مثّل هذا التحوّل القضائي خطوة أساسية في بناء مشروعية لاحقة لممارسات أكثر اتساعًا، لا سيّما بعد السابع من تشرين الأول 2023.
جانبي الخط الأخضر
حتى تاريخ السابع من تشرين الأول 2023، امتنعت السلطات الإسرائيلية عن اعتبار جثامين الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل أوراقًا تفاوضية، واقتصرت سياسة الاحتجاز على محاولة لفرض شروط على شكل الجنازة وعدد المشاركين بها، لكن السياسة أُبطلت من قبل المحكمة العليا.
على سبيل المثال في عام 2017، احتجزت الشرطة الإسرائيلية جثامين ثلاثة شبان من أم الفحم اشتُبهوا بتنفيذ عملية داخل حرم المسجد الأقصى، في سابقة تجاه فلسطينيين يحملون مواطنة اسرائيلية. التمس مركز عدالة باسم العائلات، وأصدرت المحكمة العليا قرارًا في تموز 2017 يُلزم الشرطة بتسليم الجثامين خلال 30 ساعة، مؤكدةً أن لا صلاحية قانونية تخولها احتجاز الجثامين كورقة ضاغطة لوضع شروط على شكل الجنازة [8].
في أعقاب اندلاع الحرب الأخيرة صعّدت السلطات الاسرائيلية سياستها تجاه الفلسطينيين مواطني دولة اسرائيل، حيث اضطرت الشرطة الإسرائيلية في نيسان 2024 الإفراج عن جثمان الشهيد وسيم أبو الهيجاء من طمرة بعد أكثر من شهرين ونصف من احتجازه تعسفيًا، إثر التماس قدّمه مركز عدالة. وفي أيار من العام نفسه، اضطرت النيابة العامة للإفراج عن جثمان الشهيد وهب شبيطة من الطيرة، وذلك أيضاً بعد التماس عاجل قدّمه عدالة.
كشف هاتان الحالتان الحاصلتين خلال حرب الإبادة على قطاع غزة عن توجهات جديدة تتمثّل في احتجاز الجثامين بشكل غير قانوني، والمماطلة بالإفراج عنها حتى عشية أيام البت في هذه الموضوع بالمحاكم. كما وأظهر هذا السلوك توجّهًا عنصريًا مؤسسيًا، يتعامل مع الجثامين كأدوات ردع وضغط، بانعدام غطاء قانوني أو تشريعي واضح.
في أعقاب استشهاد الأسير وليد دقّة داخل السجون الإسرائيلية، وقُبيل الإفراج عنه بأشهر قليلة، امتنعت السلطات عن تسليم جثمانه لعائلته. وردًا على ذلك، تقدّم مركز عدالة بالتماس إلى المحكمة العليا مطالبًا بتسليم الجثمان احترامًا لكرامة المتوفى وحقوق العائلة [9]. إلا أن المحكمة رفضت الالتماس في أيلول 2024، مُجيزة بشكل صريح احتجاز الجثمان بغرض استخدامه كورقة تفاوضية مستقبلية في أي صفقة محتملة مع الفصائل الفلسطينية.
شكّل القرار سابقة خطيرة كونه أول تطبيق لبند 133(3) من أنظمة الطوارئ لعام 1945 على مواطن، وليس على مقيم من الأراضي المحتلة، ما جعله محطة فاصلة في ترسيخ نهج الدولة العدائي تجاه المواطنين الفلسطينيين. استندت المحكمة في قرارها، للمرة الأولى، إلى “قانون أساس: القومية” بند 6 (أ) لتبرير احتجاز الجثمان، معتبرة أن “على الدولة واجب حماية حياة اليهود”، وبناءً على ذلك بررت احتجاز جثمان الشهيد دقّة أيضاً من خلال هذا الإطار.
ورفضت المحكمة، في كانون الثاني 2025، التماسات قدّمها مركز عدالة باسم عائلات ستة فلسطينيين من الداخل استشهدوا في ظروف متفرقة، بزعم تنفيذهم أو نيتهم تنفيذ عمليات[10]. وأكّدت في مرافعتها أن الاحتجاز تعسّفي ويفتقر إلى أي أساس قانوني أو تشريعي، فضلاً عن مسّه الصارخ بكرامة الإنسان وحقوقه الدستورية.
ورغم أن الالتماسات ركّزت على غياب الفحص الفردي لكل حالة، منحت المحكمة الشرعية لكافة قرارات الكابينيت، في ظل ما وصفته بـ”الوضع الأمني الطارئ”. واستندت المحكمة مباشرة إلى سابقة دقّة، مُرسّخة مبدأ أن الدولة مخوّلة قانونيًا باحتجاز جثامين منفذين أو مشتبه بهم، دون الحاجة إلى مراجعة فردية لكل حالة.
مرة أخرى بعد القرار، قدّم مركز عدالة التماس لاعادة النظر في القرار في ملفات الجثامين الذين ارتفعوا إلى سبعة، إلا أن المحكمة رفضت الطلب وأعادت التأكيد على مسوّغاتها السابقة. فقد شدّدت على أن الإجراء يستند إلى قرارات المجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية، والتي تنصّ بوضوح على احتجاز جثامين الفلسطينيين، بمن فيهم المواطنون، طالما بقي لدى حركة حماس أسرى أو جثامين إسرائيليين. وبذلك منحت المحكمة غطاءً قضائيًا على قرار سياسي أمني، مؤكدة أن مجال تدخلها القضائي في هذه القضايا يجب أن يبقى “ضيقًا”.
كما ربطت المحكمة بين صلاحيات القائد العسكري المستمدّة من أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945 والواقع المستجد بعد 7 تشرين الأول 2023، معتبرة أن الهجوم وما خلّفه من أسرى وجثامين لدى حماس، يبرّر توسيع نطاق السياسة ليشمل مواطنين فلسطينيين من الداخل.
ورغم اعتراف المحكمة بأن احتجاز الجثامين يمسّ بكرامة الموتى وحقوق عائلاتهم، فإنها قد وصفت هذا المساس “بالمحدود والمؤقت”، معتبرة أن المصلحة العليا للدولة في المفاوضات حول الأسرى واستعادة الجثامين اليهودية تفوق في موازنتها هذا حق الأهالي. تجاهلت المحكمة في هذا السياق طلبات الملتمسين بشأن غياب الفحص الفردي لكل حالة، واكتفت بقبول موقف الدولة المستند إلى “مواد سرّية” عُرضت في جلسة مغلقة، معتبرة أن هذه المواد كافية لإثبات مزاعم تورّط أصحاب الجثامين في محاولات تنفيذ عمليات. وبذلك أبقت الباب مفتوحًا لمواصلة العمل بهذه السياسة إلى أجل غير مسمّى، تحت ذريعة الظروف الأمنية الاستثنائية.
علاوةً على ذلك، تجلّى هذا التوجّه أيضًا في امتناع السلطات الإسرائيلية عن تسليم جثامين 167 شهيدًا منذ عام 2023، من أصل 313 جثمانًا محتجزًا منذ عام 2016. ويُلاحظ أن أكثر من نصف هؤلاء احتُجزت جثامينهم خلال الحرب الجارية، إذ جرى احتجاز 44 من أصل 81 شهيدًا في عام 2023 بعد تاريخ 7 تشرين الأول 2023 وحده.
ومن بين الجثامين المحتجزة، هناك 55 طفلًا دون سن الثامنة عشرة، وتسع شهيدات، إضافة إلى 32 أسيرًا استُشهدوا داخل السجون الإسرائيلية [11]. وتضمّ القائمة أصغر الجثامين المحتجزة، مثل جثمان الطفل وديع عليان (14 عامًا) من القدس، الذي التمس مركز “عدالة” للإفراج عنه، غير أن المحكمة العليا رفضت ذلك يوم 30 تموز 2025 [12].
سقوط حجة ورقة التفاوض
بعد التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى الأخيرة، التي دخلت حيّز التنفيذ يوم 10 تشرين الأول/أكتوبر 2025 بإشراف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، أفرجت الفصائل الفلسطينية عن جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء وجثامين بعض القتلى الذين احتُجزت جثامينهم في قطاع غزة يوم السابع من تشرين الأول 2023، وفي صدد الإفراج عن الباقي. ورغم أن الصفقة أغلقت أحد أكثر الملفات حساسية في المفاوضات، فإنها لم تتضمّن أي التزام إسرائيلي بالإفراج عن جثامين الفلسطينيين المحتجزة منذ أشهر وسنوات طويلة، سواء في الضفة الغربية والقدس أو داخل الخط الأخضر. هذا التجاهل، في ظل انتهاء ما أطلقت عليه إسرائيل “القيمة التفاوضية” للجثامين، يُسقط الذريعة التي استخدمتها اسرائيل طيلة سنوات لتبرير هذه السياسة.
كشف عدم الالتزام أو المبادرة بالإفراج عن الجثامين المُحتجزة عن جوهر هذه السياسية، فبينما كانت إسرائيل تدّعي سابقًا أن احتجازها مرتبط بالحفاظ على أوراق تفاوض مستقبلية، يتّضح اليوم أن الممارسة هي انتقامية وترسيخ لسياسات عقاب جماعي بحق الفلسطينيين وليس بهدف المساومة المحظورة قانونيًا.
إن قرارات الحكومة الإسرائيلية، وامتناع المحكمة العليا عن التدخل لوقف هذه السياسة، يبرزان أن احتجاز الجثامين لم يكن يُدار كإجراء استثنائي في حالات أمنية محددة، بل كأداة انتقامية طويلة الأمد تُستخدم لترسيخ الردع وفرض الهيمنة على الفلسطيني. هذا التواطؤ القضائي لا يمكن فهمه إلا في إطار منظومة استعمارية أوسع، تُسخّر القانون لخدمة مشروع الانتقام من الفلسطينيين.



