تجربتي وأدب الحرية [*]
حسن عبادي/ مدريد
شاركتُ في ندوة عقدها التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين في إسبانيا، و”EL AGORA DE MORATALAZ” تناولت أدب الحريّة، وما يجري في سجون الاحتلال، وجاءت مشاركتي بصفتي عضو اللجنة القانونية والاستشارية للتحالف، وقد حضرها عشرات الناشطين الإسبانيين المهتمين بالقضية الفلسطينيّة.
قدم للندوة وأدارها الدكتور نضال حاج، حيث طرحت مداخلات قيمه وجرى حوار معمق لاطلاع الشعب الإسباني على معاناة المعتقلين ووضع الحركة الفلسطينية الأسيرة وتاريخها وحاضرها في ظل مسلسل التعذيب الممنهج وأدب الحريّة الفلسطيني ومسيرة ضيف الندوة.
وكانت مشاركات للحضور، منها مداخلة قصيرة للفنان موسى نضال الخطيب، ومداخلة للإسبانية خواني رشماوي التي سبق وإن اعتقلت نتيجة عملها في إحدى الجمعيات في الأراضي الفلسطينية المحتلة لأكثر من ثلاثين عاماً، وتناولت في حديثها معاناة الأسرى، وكنتُ قد التقيت بها في سجن الدامون بالكرمل عدّة مرات، وتعرفت عليها وعلى ظروف اعتقالها.
وجاء في المداخلة:
بدايةً؛ اسمحوا لي أن أشكركم على استضافتي في هذا اللقاء، لكلّ من نظّم ورتّب وعمل على إنجاحه، ولكلّ من حضر، وأخصّ بالذكر صديقي نضال الذي بادر لدعوتي حين أعلمته أنّني سأكون في مدريد، والسيد Jose Manuel Rivas .
كانلقائيالأولمعالأسرىخلفالقضبانصبيحةالاثنين، 03.06.2019، في سجن ريمون الصحراويّ؛ ومذّاك قمت بمئات الزيارات التطوعيّة لأحرارنا.
لمست توقهم للتواصل مع العالم الخارجي؛ ومن هنا انطلقت فكرة التشبيك بين كُتّابنا وأسرانا؛ وانطلقت مبادرة “لكلّ أسير كتاب” ووصلتهم آلاف النسخ من الكتب مخترِقة أسوار السجن وقضبان الزنازين.
من بين القضبان تبيّن لي أنّ الكتابة من خلفها متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين ليرسم الوطن قوس قزح.
تبيّن لي أن أسرانا في بلد المليون أسير ليسوا مجرّد أرقام، فلكلّ منهم قصّة وحكاية.
من وحي تساؤلات أصدقائي الكتّاب من خارج البلاد انطلق مشروع “من كلّ أسير كتاب“؛ ووصلت عشرات من إصدارات الأسرى الكُتّاب لقرّاء ومهتمّين خارج الحدود، وبدأ الاهتمام أكثر بتلك الإصدارات، استضافت كتاباتهم مجموعة “أكثر من قراءة” في عمان ومنها إلى رابطة الكتاب الأردنيّين ومبادرة “أسرى يكتبون” التي تُوّجت بإصدار كتاب “ندوات أسرى يكتبون“.
يواجه الأسير صعوبات جمّة في إخراج مادّته المكتوبة عبر القضبان، وبعد إخراجها يصعب تفريغها وطباعتها، ومن ثمّ تنقيحها وتنضيدها وتحريرها، وبعد هذا كلّه مشكلة إصدارها لترى النور، ومن هنا تولّدت فكرة مساعدتهم على إصدار نتاج أقلامهم، والاحتفال بكلّ كتاب يصدر لأسير، فساعدت على إصدار عشرات الكتب وبدأ الاهتمام بأدب الحريّة يزداد.
إثر تلك النهضة الثقافية أثيرت تساؤلات كثيرة حول تلك الإصدارات، غزارة الانتاج والنشر، وكأنّ الكتابة خلف القضبان ترف وبذخ ينعم به الأسير الكاتب، فهناك من تخيّل أنّ الأسير في شطحة على شاطئ البحر أو خلف طاولة مكتبيّة في غرفة مكيّفة أو معتزل عن عالمه في صومعته للتأمّل والكتابة أو خلف حاسوبه أو اللابتوت في مقهى أو في حديقة غنّاء، أو يغوغل ويشطح عبر الشاشة الزرقاء، وهناك من تخيّل أن بإمكان الأسير أن يستأجر غرفة فندقيّة أو شقّة مفروشة مع كلّ وسائل الراحة ليتفرّغ للكتابة.
ومن هنا تولّدت فكرة إصدار كتاب “الكتابة على ضوء شمعة“؛ توجّهت للأسرى الكتّاب حول طقوسهم، وكذلك من تحرّر منهم وكتب خلف القضبان وخارجها، تحمّسوا للفكرة، وكلّ منهم كتب دون شروط أو قيود أو توجيه فجاءت كتاباتهم متنوّعة لتشكّل لوحة فسيفسائية وكولاجا أدبيا متكاملا، كلّ وطقسه.
قمت حتى السابع من أكتوبر بـمئة وأربعين لقاء مع أسرى يكتبون (عدا عشرات اللقاءات مع الأسيرات)، وكلّ لقاء أصعب من الآخر، أحمله معي عدّة أيام.
مبادرتي شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/ أو مؤسسّة؛ واجهتني المعوقات الكثيرة، بدايةً بناء جسر من الثقة مع الأسير الكاتب، وحرب شعواء ممّن ضايقتهم الفكرة ونجاحها، والتشكيك بنواياها ومحاولة عرقلتها وإفشالها.
دوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛ ونشرت مقالات دوريّة حول اللقاءات تحت عنوان “متنفّس عبر القضبان” في المواقع الالكترونية وفي الصحافة المكتوبة وأصدرت كتاب “يوميات الزيارة والمزور – متنفّس عبر القضبان” تناولت فيه تلك الزيارات.
حكايتيمعالأسيراتشرحهايطول؛
بدأت مشواري التواصليّ معهن في شهر أيار 2021، والتقيت مذّاك بغالبية الأسيرات في سجن الدامون، أعالي الكرمل السليب، حتى حين تمّ منعي من الزيارات أواخر شهر آذار 2024، وتم لاحقاً إبطال المنع بعد اللجوء للقضاء، وأصدرت كتاب “زهرات في قلب الجحيم“، تناولت فيه تجربتي مع الأسيرات، استمعت لآهاتهن وصوت البسمة التي ارتسمت على وجوههن آخر كلّ لقاء؛ وشاركنني ما مررن به من لحظة الاعتقال ورحلة العذاب ودرب الآلام حتى وصول الدامون، وأصغيت لأوجاعهن وصدى ألمهن وحملت الحِمل معي ولازمني شريط كلّ لقاء حتى اللقاء الذي يليه مع أسيرة أخرى؛
تجربة قاسية وصعبة!
من وحي المبادرة انطلق برنامج “وتر النصر” للإعلاميّة قمر عبد الرحمن، وتغريدات جمانا العتبة من ليبيا، وبدأ يزداد اهتمام الصديق خالد عز الدين بالنشر حول أدب الحرية والأسرى في الإعلام الجزائري والعربي (وعمل على إصدار ملحق ثقافي شهري خُصّص كلّ مرّة لأسير)؛
واهتمام الإعلام الدولي باستثناء رام الله وما يدور في فلكها؛
وكذلك الأمر مجلّة الليبي؛
وندوة اليوم السابع المقدسيّة بإدارة الصديقة ديمة السمّان، ومنتدى المنارة النابلسي للثقافة والإبداع، ومركز يافا الثقافي في مخيّم بلاطة التي ناقشت إصدارات الأسرى؛
ومؤسسة كل العرب الفرنسية التي أصدرت كتاب “حروف على جدران الأمل– كتابات خلف القضبان” بمشاركة 36 أسيراً؛
وندوات دوليّة حول أدب الحريّة؛
وتُوّجت بمؤتمر أدب الحريّة الأول بعمان تزامناً مع يوم الأسير الفلسطيني؛
ودور النشر التي بدأت تهتم بأدب الحريّة، وخاصّة دار الرعاة وجسور ثقافية.
تناولت الكثير من الكتب التي ألفها كتّاب أسرى بقراءات نقدية انطباعية، ووجدت أن “أدب الحرية الفلسطيني” يتعدى كونه “أدب متعة” وتسلية، إلى كونه شهادة حية، وفلسفة وجودية، ومشروعا نضاليا متكاملا يهدف إلى مواجهة السجان ليس بالبندقية فقط، بل بالكلمة والإبداع. ويعكس هذا الأدب تحولا في الوعي، حيث يرفض الأسير أن يكون ضحية، ويصر على أن يكون فاعلا ومؤثرا من خلال كتاباته، ووجدت أن الأسرى يوثقون معاناتهم، ويُقدمون نقدا ذاتيا لواقعهم، ويُجددون الأمل في التحرر، مما يجعله أدبا متفائلا رغم قسوة الظروف، ومن هنا تولّدت فكرة كتابي الأخير “احتمالات بيضاء–قراءات في أدب الحرية الفلسطيني“.
من على هذه المنصّة وجدتُ لزاماً عليّ أن أشكر جزيل الشكر زوجتي سميرة التي واكبت المشروع، بل كانت المبادرة والمحفّز ومن أشعلت الشرارة الأولى؛
والصديق فراس حج محمد الذي حرّر كلّ تلك الكتب وأسدى النصيحة ومدّ يد العون؛
والفنان ظافر شوربجي الذي صمّم أغلفة كل كتبي ومنتجها؛
وناشرينقولاعقل،صاحبدارالرعاة،برفقةمحمدالحواري،صاحبجسورثقافية.
وأخيراً؛ يجدر الإشارة إلى ما يقوم به التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين، ونضال زميل لي وناشط في إدارة التحالف، (إطار أوروبي فلسطيني مستقلّ وغير مموَّل، تأسس في أوروبا، ويضم في صفوفه نشطاء فلسطينيين يقيمون في عدد من الدول ونشطاء حقوقيين وبرلمانيين وحقوقيين أوروبيين مناصرين للشعب الفلسطينيين أخذوا على عاتقهم مناصرة ودعم الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.)
وتبقىالحريّةخيرعلاجللأسير.
[*] مداخلة في مدريد، الخميس 05.11.2025






