• 8545141
  • 9814564

قصّة… الزِّيبْ وسعد الدِّين… بقلم: سعيد نفّاع

الزيب

الزِّيبْ وسعد الدِّين

قصّة

لم يخطر مرّة على بال سعد الدِّين، وهو الذي التهمت منه الأيّام سبعًا وثمانين حولًا عجافًا، أن يقف في ذلك الصباح بين يديّ ملائكة الرحمة يؤنّبون إيّاه على عجوف سنيّه منذ ذلك الـ أيّار. كان البحر هائجًا في أيّار ذاك على غير عادة؛ ارتطام أمواجه في نواقير الناقورة يهزّ الأرض، وتئن تحت وقعه صخور الشاطئ القريب، وحتّى جزيرةالزّيببصخرها الراسي عميقًا في البحر والتاريخ كانت تتأوّه، وهي التي يا ما تحمّلت من اللطم المبرح سنين وظلّت تضحك لـ الزِّيب إن ضحك أطفالها وتبكيها إن بكوا، ولشدّ ما كان يوحشها اليوم الذي يغيبون عنها مخِلّين بموعدهم وإيّاها حين يهدأ البحر، وهي هي التي كانت تدمع مآقيها إن دمعت عيون صبايا الزيب ونسائها فرحًا في مولد أو قرانٍ، أو حزنًا في مأتم أو فراق. ذاك الـ أيّار جعل تأوّهها أكثر إيلامًا وجعل دموعها أشدّ حرقة.

كان سعد يرفل في حلم يا ما اشتاقته أحلامُه الطفوليّة، كان حمله طائر الرّخ ودار به حول الجزيرة إلى أن حطّه على صخرة من صخورها يداعب الموج أقدامها بحبّ أزليّ أبديّ، وإذ بحوريّة تشقّ الأمواج كما شقّت أفروديت القبرصيّة الصدفة حسب ما كان معلّم التاريخ البصّاوي حكا لهم، تملّكه الخوف إذ كان المعلّم حكى: إنّ أفروديت تنشقّ من البحر تخطف الشباب إلى الأولمب تلهو بهم ثمّ تتركهم بين شعابه هائمين، لكنّه اطمأنّ حين لم يرَ من حوريّته ما يوحي بنيّة اختطاف وراحتأفروديتهتحكي له عن أيّار الأخير مترعة كأسه بدموع ليست كالدموع لم يفقه كنهها وقد كانت اختفت دون وداع، وانتظرها طويلًا علّها تكمل الحكاية.

لم يعرف حينها وظلّ سبعًا وثمانين لا يعرف كيف اختفت، ما يعرف أنّه حينما اختفت حوريّته فجأة وجد نفسه بين حطام دمل أهله ونصف جسمه الأسفل، وجدها ترتجف بين أزيز يمزّق الفضاء. خلّص نفسه، وظلّ لا يعرف إن كان بكى أو لم يبكِ، ولكنّه ظلّ يذكر أنّ يديه عجزتا عن لقاء أبويه واخته هند التي كانت قدمها الصغيرة تطلّ من بين الركام. كان الصراخ والعويل يملأ الدنيا آتيًا من خلف الحطام، والناس تركض بين سُحب دخان في عشواء من أمرهم، لا يلبثون أن يلتمّوا في نهر بشريّ يجري شمالًا جرفه معه إلى حين هدّه ألم في رجليه فانتحى ضفّته وظلّ.

تلى أيّار أيّار وظلّت الزِّيب بعيدة وحوريّة الجزيرة غائبة وقدم هند تطلّ من بين الركام. حطّت به الدنيا على زيبيّة خلّاها النهر وراءه كما خلّاه، فأنجبا زيبيّات وزيبيّين كبروا قريبًا بعيدًا عن قصور رملٍ على شواطئ الزّيب، وبعيدًا عن ذكرها أمامه وقد رأوا اعتلاله عند ذكرها وإن عرَضًا. غير أن الأحفاد يا ما حكوا له عن بلدهم الزّيب والرمل والشواطئ والبحر، سائلين كلّ مرّة: “جدّي ليه ما تروح معنا على الزّيب!؟فيبتسم دامعًا جابرًا بخاطرهم: “المرّة الـ جاي“.

الزّيب صارت دولة؛ كلام يا ما سمعه ولم يفهم له معنى يومًا ولم يسأل. وصارت متنزّهًا تفترش رمالَ رابيتها وشاطئها أجسادُ عراةٍ تتقلّب متبادلة الأحضان متشمّسة نهارًا شبِقة ليلاً، ورغم ذلك ظلّت قريبة منه بعيدة، وظلّ خائفًا أن يدخلها ولو مواسيًا إيّاها في محنتها.

إنكاناستطاعردّحبِّهالقاتلِأنيزورهاسبعًاوثمانينحولًا،لميقوَعلىردّماحمللهملائكةالرحمةذاكالصباحوقدعجّفوالهسنيّهدونإفصاح. راح إلى الزّيب رهبة من تلك الزيارة السماويّة علّه يردّ لها جميل عشر سنين عليه خلاصًا لذمّته. كانت مسيّجة بأسلاك عالية سار بمحاذاتها يفتّش عن فتحة فوجدها وراح يخطو وعكّازه نحوها لا تكاد تحمله رجلاه. وما كاد حتّى جاءه صوتٌ من ورائه بلهجة عربيّة مشوّهة:

_ يا حج وين رايح؟!”

تلقائيّا:

_ على بلدي؟!

_ أيّ بلدك هذه؟! الدخول بدفع.. ارجع ادفع!

خارت قواه مرّة واحدة فتلقّفه رمل أرض الزّيب برفق المحبّ. راح يداعب الرمل بعكّازه يخلط قطرات دموعه التي انثالت حرّى مع حبّات الرمل التي تلقّفتها عطشى. داهمته رغبة أن يفترش الرمل. تمدّد وقد أغمض عينيه متكئا على مِرفقه الذي ما فتئ أن ارتخى فانزاح من تحت رأسه، وقبل أن يلامس رأسه الرمل تلقّفته أذرع حلّقت به في سماء الزّيب وراحت به بعيدًا.    

سعيد نفّاع

27 كانون الأوّل 2025

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

جديد الأخبار
  • اعلان مربع اصفر
  • عكانت مربع احمر