محاكم التفتيش الكنسيّة وداعش وجهان لنفس العملة
زهير حليم أندراوس
“لسنا ضدّ مَنْ يقتدي بالدّين، ولكننّا ضدّ التطرّف الدينيّ”، (حكيم الثورة وضميرها، د. جورج حبش)..”لسنا ضدّ الأديان ونحترم حقّ كلّ إنسانٍ أنْ يُعانِق الدّين الذي يؤمن به، ولكن عندما يتجاوز الدّين، أيُ دينٍ، حدود معبده يتحوّل إلى سلطةٍ دكتاتوريّةٍ قمعيّةٍ وهذا ما نرفضه جملةً وتفصيلاً”، (الشهيد البطل أنطوان سعادة، الذي ارتقى دفاعًا وفداءً لفلسطين).
***
التاريخ لا يكذِب وجميع المُحاولات لإعادة كتابته مصيرها الفشل المحتوم، وفي هذا السياق يقول كارل ماركس “إنّ التاريخ يُعيد نفسه مرتين، مرّةً على شكل مأساةٍ، ومرّةً على شكل مهزلةٍ، وما نراه الآن هو المهزلة”، ومن المُهِّم في هذه العُجالة التأكيد على أنّ أوروبا كانت تئّن تحت حكم الكنيسة الكاثوليكيّة الرجعيّة والوحشيّة، التي لم تتورّع عن إطلاق العنان لمحاكِم التفتيش الإجراميّة، لقمع الشعوب والتفنّن باستبدادها، وارتكبت جرائم يندى لها الجبين من أجل تكريس هيمنتها، كما أنّ الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش لا تقِّل خطورةً وفظاعةً عن الجرائم التي ارتكبتها (داعش) في سوريّة وفي أماكن أخرى، وبقيت القارّة العجوز تُعاني الأمرّين من هذا البطش الدمويّ حتى ثارت ثائرة الشعوب الأوروبيّة على طغيان الكنيسة، وكانت الثورة التي قادها (البروتستانت)، وهي كلمة لاتينيّة معناها الاحتجاج، ومنذ أنْ تمّ تحجيم دور الكنيسة الكاثوليكيّة، انتقلت أوروبا قاطبةً إلى الـ”عصر الذهبيّ”، وها هي اليوم ديمقراطيّات مُتقدّمة ومُتطورّة، بصرف النظر عن مواقفها المُنحازَة لدولة الاحتلال الإسرائيليّ، وبغضّ الطرف عن أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة كانت وما زالت، ووفق كلّ المؤشّرات، ستبقى مؤسسةً رجعيّةً بامتيازٍ، ولكنّها بعيدة جدًا عن دوائر صُنع القرار.
***
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: هل التعصّب الدينيّ هو السبب المفصليّ، الذي فتح الباب على مصراعيه لاستباحة أمّة الناطقين بالضاد؟ هل عدم فصل الدين عن الدولة-السياسة، هو أحد الأسباب المركزيّة للهجمة الاستعماريّة الشرسة علينا بهدف تمزيقنا وتفتيتنا؟ وهل التعصّب الدينيّ هو السبب المركزيّ أوْ المفصليّ أوْ الثانويّ لبقاء الأمّة العربيّة مُتخلّفة؟ وأكثر من ذلك، هل التزمّت الدينيّ سيقودنا عاجلاً أمْ آجلاً نحو العصور الحجريّة؟
***
قبل الإجابة على السؤال المطروح، نرى لزامًا على أنفسنا إجراء مقاربة أوْ مقارنة، أوْ الاثنتين معًا، بين الأمّة العربيّة وبين شعوب أمريكا اللاتينيّة، في محاولةٍ متواضعةٍ لوضع الأصبع على الجرح النازف: فلا يُخفى على أحدٍ، ولا يجب أنْ يُخفى على كائنٍ مَنْ كان، بأنّ شعوب أمريكا اللاتينيّة، ذاقت الويلات وعانت الأمرّين من أنظمة الحكم الفاشيّة والاستبداديّة، التي كانت مدعومةً قولاُ وفعلاً، ماديًا ومعنويًا من بلد الشياطين الجدد، أمريكا، التي عملت بدون كللٍ أوْ مللٍ على تكريس هذه الحالة، لأنّها تصّب في مصالحها الإستراتجيّة والتكتيكيّة معًا، ذلك أنّ هذه الدول تقع في الساحة الخلفيّة لواشنطن. مُضافًا إلى ذلك، فقد لعبت الكنيسة الكاثوليكيّة، كعادتها، دورًا مُهّمًا في وأد الثورات، وهو موقفُ يؤكّد أنّها اصطفّت إلى جانِب أعداء الشعوب، وبات عارها يسير عاريًا، وما زال، ووفق كلّ المؤشِّرات سيبقى.
***
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الأخطر لماذا لم تتمكّن رأس الأفعى، أمريكا، من تأسيس وتشكيل تنظيماتٍ وحشيّةٍ وبربريّةٍ في أمريكا اللاتينيّة على شاكلة (داعش)؟ أوْ لنسأل بصورةٍ أكثر صريحة: هل لأنّ هذه الشعوب المسيحيّة-الكاثوليكيّة، على الرغم من أنّها متدينةً جدًا، قررت أنّ احترام الدين وتعاليمه لا يتناقض بالمرّة مع تطلعاتها إلى الحريّة والاستقلال؟ ذلك أنّه خلافًا لما يجري في الوطن العربيّ، حيث يتحالَف الـ”مُفكّر” مع الـ”مُكفّر” لإرهاب الشعوب؟ وأكثر من ذلك، لقد صدق مَنْ قال إنّ هناك بونًا شاسعًا بين أمّة مشغولة بتفسير الأحلام وبين أمّة تعمل على تحقيقها. أوْ بكلمات المُفكِّر مصطفى محمد: “لا تتأمّل خيرًا من أمّةٍ اتخذّت من العادات والتقاليد دستورًا لها، حيث فيها الجهل يُغطّي العقل خوفًا من مُواجهة الفكر”.
***
كإنسانٍ، كعربيٍّ، كفلسطينيٍّ وكعلمانيٍّ أؤمن إيمانًا قاطعًا بأنّ هيمنة الخطاب الدينيّ المُتشدّد والأصوليّ على الأجندة العربيّة، ولا نقصد الدين الوسطيّ والمُتسامِح، أعادنا سنوات إلى الوراء، وجاء على حساب تقهقر الخطاب القوميّ العربيّ الوحدويّ، وبالتالي نجزِم أنّه بدون فصل الدّين عن الدولة-السياسة، لا أمل لهذه الأمّة بالنهوض، واللحاق بركب الحضارة، وأرفض رفضًا قاطِعًا المقولة إنّ الأنظمة الحاكِمة في الوطن العربيّ ديكتاتوريّةً، وبالتالي فإنّ أيّ مُحاولةٍ من قبل الشعوب للثورة من أجل الوصول لدولة المواطنة مصيرها الفشل المحتوم.
***
وعندما نقول فصل الدّين عن الدولة والسياسة، لا نقصد، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ الإساءة لهذا الدّين أوْ ذاك، فالدّين لله والوطن للجميع، العلمنة هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأمّة العربيّة من الطائفيّة المُستوردة ومن المذهبيّة المُصنعّة في بلادنا، أيْ أنّها أنتاج محليّ، وبما أنّنا في فترة عيد ميلاد السيّد المسيح ورأس السنّة الميلاديّة، نقول كلّ عامٍ وأمّتنا العربيّة من المُحيط إلى الخليج بخير، ولكن في الوقت عينه نُحذِّر ونقول: ويلٌ، ويلٌ لأمّةٍ مُنشغلةٍ بمُعايدة المسيحيين من عدمها!
***
ونُنهي بمقولة علي الوردي المأثورة جدًا:” لو خيّروا العرب بين دولتيْن علمانيّة ودينيّة لصوّتوا للدولة الدينيّة وذهبوا للعيش في الدولة العلمانيّة”، وكلّنا أمل في أنّ حاضرِنا ومُستقبلنا كعربٍ نؤمن بأنّ عهد الاستبداد قد ولّى، سيدحض هذه المقولة، ليس بالتنظير، بل بالمُمارسة على أرض الواقع.
(زهير أندراوس، كاتبٌ عربيٌّ-فلسطينيٌّ من قرية ترشيحا، شمال فلسطين المُحتلّة)
* ملاحظة: المقالات المنشوره على مسؤولية الناشر ولا تعبر بالضروره عن رأي موقع عكانت