نشأت في عائلة شقت طريقها على دروب الفن على مدى اجيال. صحبتها الموهبة لتتذوق الوانًا مختلفة من الفن. تتمتع بميزة تكاد تكون الوحيدة في وسطنا العربي، وهي قدرتها على ان تجمع ما بين العزف على البيانو وما بين الغناء الأوبرالي في ان واحد.
رغم ترددها الا اننا نجحنا باجراء لقاء صحافي معها، وهو ما تقرأونه في السطور التالية.
ديما بكري ما هو سبب ترددك باجراء لقاء صحافي يتحدث عن موهبتك؟
ديما: ان خوفي من التضخيم الاعلامي للموهبة الفنية بشكل عام والموسيقية على وجه التحديد، كان سببًا في ترددي في اجراء لقاء يتحدث عن مشواري مع الموسيقى والفن. ان العناوين التي تتراس لقاءات صحافية مع اشخاص كانت لهم تجربة مع الفن او الموسيقى، تكون مبالغا فيها الى حد كبير. الامر الذي اعتقد بانه لا يعكس الصورة الصحيحة للقارئ والمتصفح. يعود هذا التضخيم الاعلامي لعاملين في نظري، الاول استغلال عدم معرفة والمام جمهورنا العربي وتبحره في هذا المجال، وخصوصًا ان تحدثنا عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية. والامر الثاني هو افتقار الصحافيين لامكانيات التقييم النقدي المهني لهذا النوع من الموسيقى (كاطلاقهم لقب فنان عالمي…بسهولة..!!).
اخبرينا عن اول خطواتك على السلم الموسيقي؟
ديما: لقد ترعرعت في اسرة رشفت من الفن قبل ان اولد انا حتى. فقد كان جدي خالد قزموز اول عازف تشيلو في البلاد. عزف الموسيقى الشرقية مع فرقة «صدقي شكري» في عكا، ولكنه في نفس الوقت كان يتمتع باذن موسيقية نجحت في التلذذ بالموسيقى الغربية الكلاسيكية. فكان يحرص على الاستماع الى قداس الفاتيكان بشكل دائم، وهذا ساعده في بحثه عن الفرق بين الدوسات الشرقية والغربية. امي الفنانة سامية قزموز بكري التي بدورها امتصت حب الفن والموسيقى من والدها، استطاعت الدمج بين الوان كثيرة من الفنون على منصة المسرح، على راسها التمثيل والغناء. ومن هنا فان الخامه الصوتية ورثتها عن والدتي. اما مشوارنا انا واخوتي مع الموسيقى فبدأ من عتمة الرحم، مذ كنا اجنة. فقد دأبت امي على أن تستمع الى الموسيقى الكلاسيكية امثال تشيسوفسكي وموزارت وغيرهما، وتتاكد ان تنجح هذه الموسيقى بالوصول الى الجنين في بطنها. كما وكانت تشغل الاسطوانات الموسيقية الكلاسيكية الهادئة ونحن رضع، لتساعدنا على الهدوء والنوم. ومن ثم اهتمت امي بشراء العاب الاطفال ذات المؤثرات الصوتية الجميله بموسيقاها. وفي مرحلة متقدمة كنت اتغذى على الموسيقى التي كان يعزفها اخوتي عند تلقيهم دروس الموسيقى في المنزل. وتحديدًا اخي البكر وائل، الذي اظهر تميزًا في العزف على البيانو، ولاسيما احترافه الى درجة الشروع في التلحين منذ نعومة اظافره.
كنت في اوقات تلقي اخوتي دروس البيانو، احاول ان اتمدد واشرئب الى ان اصل الى مفاتيح البيانو، لاتمكن من العزف عليه. كنت حينها في الرابعة من العمر عندما قالت معلمة اخوتي لامي، انني ابدي اهتمامًا كبيرًا وقدرة متميزة على الاستيعاب الموسيقي. وبالفعل امتحنتني المعلمة واكدت انني جاهزة رغم صغر سني لتلقي الدروس. ومن هنا بدأت الرحلة. كنت امتص ثقافتي وحبي للموسيقى الكلاسيكية، من وجود العزف الدائم في منزلنا والاشرطة الكلاسيكية التي اهتم اخي وائل، على وجه الخصوص، بتشغيلها في المنزل الى جانب الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، التي كان والداي يحبان الاستماع اليها.(كأم كلثوم وعبد الوهاب..)
حدثينا عن مشوارك الاكاديمي مع العزف.
ديما: عندما بلغت الخامسة من العمر تم قبولي في الكونسرفاتوار في مدينتي عكا، وواصلت تلقي دروس العزف والدروس النظرية وغيرها على يد عدة معلمين، على مدار الاعوام، وكان الاستاذ اولغ كرايمان الذي حضرني لتقديم خمس وحدات بجروت في العزف على البيانو. كنا انا واخوتي الطلاب العرب الوحيدين في الكونسرفاتوار. في اطار الكونسرفاتوار كنا نظهر على خشبة مسرحه على الاقل ثلاث مرات سنويا، الامر الذي طور لدينا الثقة والشجاعة في الظهور على المسارح وفي العروض مستقبلاً. كما وشاركت بجولة عروض في صالات وكنائس مختلفة مع كونسرفاتوار عكا، بفقرة عزف سولو (منفرد) في مدينة هانوفير في المانيا. وظهرت بوصلة انفرادية اخرى في افتتاح لعرض مسرحي في جامعة يوميو في السويد. ثم التحقت بالاكاديمية الموسيقية روبين، وهي المعهد الاعلى للموسيقى في البلاد. انهيت هنالك اللقب الاول في موضوع «الاداء الكلاسيكي على البيانو»، على يد الدكتور زخاريا بلافين والبروفسور فاديم موناستيرسكي. كنت الفتاة العربية الاولى التي تدخل هذا التخصص. وهو فرع يختلف عن تخصص التأهيل التدريسي للآلة.
كانت لك تجربة مع تعليم العزف على البيانو للاخرين اليس كذلك؟
ديما: نعم، فمنذ السنة الاولى لدراستي الاكاديمية في روبين التحقت بالمعهد الوطني للموسيقى، على اسم ادوارد سعيد، كمعلمة. كنت أدرس العزف على البيانو لطلاب تراوحت اعمارهم ما بين الخامسة والثامنة عشرة. كما ودرّست في الماجنيفيكات، المعهد الموسيقي التابع لتيراسنطة القدس. ان لرحلتي في تعليم العزف على البيانو للاخرين وقعًا واثرًا كبيرين في تجريتي الموسيقية. فمن خلال التعليم كنت انا ايضًا اتبحر واتعلم اكثر. واستشعرت بالفعل من خلال هذه التجربة مقولة المفكر الفرنسي جوزيف جوبرت (1754-1824): «ان تُعلّم يعني ان تتعلم مرتين». ان رحلتي مع تعليم العزف طالت مدة ثماني سنوات، ما بين القدس والشمال (بيت الموسيقى في شفاعمرو). كانت تجربة اختبرت فيها تطورًا في نفسي. فقد استفدت منها بقدر ما استفاد منها الطلاب. كان الامر يتطلب مني الاطلاع والتدرب المستمرين، واحيانًا اللجوء الى خبرة المتبحرين في المجال ايضا.
ما هي اهمية تعليم الموسيقى للاطفال؟
ديما: ان تعليم العزف على البيانو للاطفال امر ينعكس على شخصياتهم ويطور من مهاراتهم المختلفة. ففي بادئ الامر القي الضوء على رفع هذه المهارة، والقدرة على الظهور أمام الجمهور من ثقة الطفل بنفسه. الى جانب هذا فان الطفل يكتسب لغة جديدة وهي اللغة الموسيقية، فالنوتة هي لغة بحد ذاتها. كما وان الموسيقى بشكل عام ترفع من مستوى الذائقة الجمالية والفنية لدى الطفل. ان العزف على البيانو يتطلب قدرة ذهنية على الدمج ما بين قراءة النوتة والتفكير الحسابي الذي تتطلبه. الامر الذي ينعكس على تحسن الطفل في تفكيره الرياضي. من ناحية ثانية، ان العزف على البيانو يستلزم التشغيل الموتوري للجسم الى جانب التفكير الذهني. فهنالك ضرورة تناغم اليد اليسرى باليمنى وتناغمهما مع الرجل التي تضرب على البيدال. كما وان العزف على البيانو وسماع الموسيقى التي يؤديها، تجعله جزءًا منها، فيتفاعل عاطفيًّا وينساب معها. لذا كل هذه الامور تعتبر تدريبًا ذهنيا جسديًّا، عاطفيًّا وروحيًّا يمر به الطفل في ان واحد. مما يحسن من ادائه في هذه المجالات المتعددة. ولوحظ أنه يرفع مستوى الذكاء عند الطفل حسب الاحصائيات والدراسات.
هل يستطيع كل طفل ان يتعلم العزف على البيانو؟
ديما: نعم، كل طفل هو فنان حسب أرسطو. ولكن علينا ان نكتشف وننمي ونطورموهبته. ولكن من الضروري ان نتذكر ان لكل طفل قدراته ووتيرته على استيعاب هذه المهارة. واننا يجب ان لا نتجاهل الفوارق بين الاطفال المختلفين. بنظري اي طفل بمقدوره اكتساب هذه المهارة.
هل من اختلاف ما بين تعليم العزف في الشمال والقدس؟
ديما: اقولها صراحة، ان تعليم العزف لعربنا في الشمال هو من الوان الرفاه الاجتماعي، على عكس ما لاحظته في القدس. ففي بعض الاحيان كان تعليم الالة الموسيقية يُستخدم كطرق علاجية، من الفواجع التي يشهدها الاطفال القادمين من شرقي القدس واثر الاحتلال عليهم. في اهون الحالات كان يعاني الاطفال من كبت معين، الا اننا كنا نلحظ تغيرًا كبيرًا في انطلاق وتحرر الطفل العاطفي بعد العام الاول. الموسيقى والعزف يساعدان على هذا كثيرًا. اطفال القدس كانوا يجتهدون كثيرًا في حضور الدروس، فمنهم من كان يسافر مدة ساعة ونصف للقدوم الى المعهد. واذكر طالبة كانت تجتاز الحاجز الاسرائيلي لتصل الى المعهد، وفي كثير من الاحيان كان يغلق الحاجز جراء مشاكل امنية فلا تستطيع القدوم. فتكون فرحة عارمة في الايام التي تستطيع فيها.
حدثينا عن الكلاسيكيين كشريحة في مجتمعنا العربي.
ديما: ان الكلاسيكيين يعتبرون شريحة صغيرة في وسطنا العربي. وكثيرًا ما يعانون من نوع من الغربة بسبب الاختلاف الثقافي. ففي كثير من الاحيان لا يستوعب المجتمع احتياجات هذه الشريحة. من ناحية ثانية، فان الجمهور العربي ليس متذوقًا للموسيقى الكلاسيكية على وجه العموم. الامر الذي يتطلب اطلاعًا وثقافة واتساعًا في الافق، وتذوقًا منفتحًا لألوان جديدة ومختلفة من الموسيقى. اما الذين يدرسون الموسيقى الشرقية فمعاناتهم وشعورهم بالغربة يكون اقل بكثير. لان الجمهور متذوق لهذا اللون من الموسيقى والفن، اذ انه جزء من تاريخنا وفلكلورنا وحضارتنا.
علمنا انك تغنين الاوبرا الى جانب العزف، حدثينا اكثر.
ديما: لقد درست التطوير الصوتي بتقنية غربية في اكاديمية «روبين» على يد واحدة من ابرز المعلمات في المجال. وفي طفولتي كنت أحاول أداء وترديد آريا من أوبرا كارمن أمام العائلة، وأن أرتجل بلغة طلاسم مقلدة مغنيات الأوبرا. كما وقد شاركت في جوقة الاكاديمية مدة سنتين، بادارة المايسترو ستانلي سبارفر. ان طبقتي الصوتية من نوع ميتسو سوبرانو. واني اتمتع اليوم بالقدرة على دمج الغناء الاوبيرالي في اثناء العزف على البيانو.
هل تودين تقديم نصيحة او دعوة في هذا السياق.
ديما: نعم، فانني اذكر الجهد الكبير الذي كنت ملزمة بتقديمة وبشكل فردي، للتحضير قبل دخول الاكاديمية، فكان علي ان احضر الدروس ما بعد الدوام في المدارس العبرية، لاكتسب المعرفة النظرية والتاريخية للموسيقى. ففي المدارس العبرية تقام الدروس الموسيقية وكل توابعها بعد الدوام، الامر الذي تفتقر اليه مدارسنا العربية. كما وان المجتمع في شحة من المنح الأكاديمية التي تساعد الطالب العربي على استكمال تعليمه العالي في هذا المجال. ولكن ما يثلج صدري رغم كل هذا هو توسع المتعاطين مع الموسيقى عامة، وشريحة الكلاسيكيين خاصة، مما يدل على تنامي الوعي بيننا.