شعر: نظير شمالي
(1)
بالأمسِ كنتُ المغنّي، حالما بينَ أجفانِ السُّفوحْ
واليومَ قد نَضَبَتْ مزاميرُ الغناءْ!
رحلَ الصّوتُ عن صوتِ المغنّي
ما عادَ في الحَلْقِ قَطْرَهْ
كيفَ ضاعَ الصّوتُ منّي؟!!
كيفَ ضاعَ الصّوتُ منْ صوتِ المغنّي؟!! كيف غابْ؟!!
(2)
في متاهاتِ الخريفِ سَئِمْتُ أقفاصَ المدينهْ
بظلّيَ المشْروخِ تَغتالُني مدُنُ الرّصاصِ بظلِّيَ الممْسوخْ
وجْهُها، قلبُها، طعمُها رصاصٌ وكِبْريتْ
صِرْتُ الغريبَ.. غريبًا صِرْتُ لا يَفْهَمُني أحدْ
يا كوخيَ السّعيدَ، يا كوخَ القَصَبْ
يا كوخيَ الصّغيرَ، يا كوخَ الفَرَحْ
(3)
أدْرِكيني، يا راعيَهْ
يا غزالةً برّيّةً بلَّلَتْها تَرانيمُ المطَرْ
واسْكُبي في القلبِ دِفْئًا مِنْ أغانيكِ السّاحراتْ
وانْزِعي نابَ ذِئْبٍ للصّقيعْ
فالشّتاءاتُ في اللّيلِ البهيمِ قد غيَّبَتْ ضوءَ القمرْ
وفي القلبِ فُيوضٌ مِنْ شتاءاتْ
قد تهاوى القلبُ، يا راعيَهْ
قد تهاوى منذُ الخريفْ
والقلبُ، كلُّ القلبِ مَيْتْ
(4)
تعالَيْ، يا راعيهْ
للبَحْرِ، لِلرّوابي الخُضْرِ نُغنّي، للسُّهوبْ
لِنوارِسِ البحْرِ، لِلْوَلَهِ الغَجَرِيِّ، للمراعي المعْشَوشِبَهْ
لزهْرِ اللَّوزِ، للأيائِلِ الجبليّةِ يَدْهَمُنا نشيدْ
نَنْتَشِي بالاغاني، بأحلامِ السَّحَرْ
تعالَي.. عانقي الاعشابَ، واهْزَجي بالاغاني،
واغْزِلي للشّمسِ شالًا من أُرْجُوانِ المساءْ
الحُبُّ في الارضِ ناغَى قَبْلَ اللُّغاتْ
وهْوَ مِلْحُ الارضِ، سرُّ الحياةْ
وانا احبُّكِ، يا ابنةَ الغاباتِ، كما الحبُّ في البَدْءِ كانْ
بِشَوقِ الارضِ لِتِرْياقِ المطرْ
الحبُّ قاموسُ اللّغاتِ، حيٌّ لا يموتْ
الحبُّ بَدْءُ اللّغاتْ
هو رُخُّ البَعْثِ يصحو منْ رمادْ
هو بَعْثُ البعْثِ، وهْوَ حيٌّ لا يموتْ
الحبُّ يبقى لا يموتْ
الحبُّ يبقى.. لا يموتْ
(5)
أدْرِكيني، يا راعيَهْ
صوتُكِ الغَجَرِيُّ صارَ هاجِسي ويَقيني
يا غزالًا ساحرًا يُسابقُ الرّياحَ، يُجاري الوُعولْ
تَقافَزْ، يا غزالًا شارِدًا،
تَقافَزْ، يا غزاليْ السَّعيدْ
(6)
جَفْنُكِ الوَسْنانُ، يا راعيَهْ
يُهَدْهِدُ الأفْقَ البعيدَ كزخّاتِ المطرْ
سارِعي وفي كَفَّيْكِ حِنّائي
هَدْهِدي الرُّوحَ بِالْوَلَهِ الوحشيِّ القديمْ
ضَمِّخيني بِطُهْرِ البِداياتِ، بِعِطْرِ الصَّنوبَرْ
تعالَي، يا ابنةَ الشّمْسِ والامطارِ، في صباحٍ مَطيْرْ
وامْسَحي الصَّدْرَ منّي بِزيتِ البراءهْ
أُناديكِ.. نُطارِدُ الإِوَزَّ البرّيَّ في المروجِ المخْضَوْضِلَهْ
أُناديكِ.. نرفَعُ أشرعةَ البِداياتْ..
(7)
أدْرِكيني، يا راعيهْ
صِرْتُ المهَرِّجَ الباكي!!
صِرْتُ الغريبَ لا يَعْرِفُهُ أحدْ
وَجَعُ الآخَرينَ تعاويذُ العذابِ التي تُدْميهْ
ولا يَبْكيهِ أحدْ!!
ولا يَرْثيهِ أحدْ!!
(فالآخَرونَ مومْياواتُ هذا العصْرِ لا تبكي على أحدْ!!
في رُقادِ الخريفِ صاروا أشْباحَ مَيْتْ
بقلبٍ مُحَنَّطٍ، بعيونٍ مِنْ زجاجٍ سَميكْ!!)
في جُثَّةِ اللّيلِ ارتعاشاتُ الخريفْ
في نَوبةٍ منْ سُعالٍ ولُهاثْ
أُواجِهُ ظلِّيَ الممسوخْ
وأَنْزِعُ عنْ وجهيْ قِناعَ وَرْدٍ وحريرْ
(بأقنعةِ الورْدِ الحريريِّ اكْتَسَتْ كلُّ الوجوهْ
كلُّ الوجوهِ اكتسَتْ بالأقنعهْ
فوقَ الوجوهِ تَكَدَّسَتْ، وتحتَ الوجوهْ
مَن يَشتري الورْدَ المنَمَّقَ، مَنْ يَشتري كلَّ الحريرْ؟!!
مَنْ يَشتري الوجْهَ الموَرَّدَ في المزادْ؟!!
مَنْ يَشتري القلبَ المحنَّطَ في عُلَبْ؟!!)
وَجْهيَ الآنَ ما عادَ وجهيْ.. يَفْجَأُني وجْهٌ مُسْتعارْ!!
وَجَدْتُها، وَجَدْتُها:
"الوجْهُ ما عادَ وجهيْ!!
الوجهُ ما عادَ وجهيْ!!"
أَعيدي اليَّ ظِلِّيَ المشْروخْ،
أَعيديني اليَّ، أعيدي اليَّ سماواتِ الطُّفولَهْ
وانْشُري شِراعًا لأرضِ البراءَهْ
واهْجُري كَوكبًا لوَّثَتْهُ أكُفُّ الزّائِفينْ
أشْعِلي فَتِيْلَ الرّمادِ، أَنْطِقي القلبَ المحنَّطَ أشْعارَ نارْ:
"لِشَعْركِ الغَجَرِيِّ تاجٌ مِنْ بَيْلَسانْ
وللوجْهِ أطيافٌ سماوِيَّهْ
وللخَصْرِ البَتُوْلِ زُنّارُ عشْقٍ مِنْ قَصَبٍ وغارْ
مُقَزِّزَةٌ مساحيقُ العَصْرِ، زائفةٌ كَسَرابْ
كلُّ المساحيقِ أطْلِيَةٌ مُقَزِّزهْ
لا تُواريْ نَتْنَ الجِيَفْ
سِحْرُكِ البِدائيُّ أحلَى،
والمبْسِمُ السَّماويُّ البريءُ أنْدَى،
والسّناءُ الطُّفوليُّ أَجْمَلْ..
صدى المغنّي:
"ضاع صوتي، ضاع ظِلّي،
كيف ضاعَ وَجْهيْ في الزِّحام؟!!
صار لي وجْهٌ مُسْتَعارْ!!
كيف غابَ صَوتي في نَشِيْجِ المدينةِ؟!! كيف غابْ؟!!
الجوقة:
"أعيدوا الوجْهَ لسيِّدِهِ،
أعيدوا الأَنا لِأَناها، أعيدوا أَنايَ إِليّْ
أعيدوا اليَّ القلبَ السّعيدَ، أعيدوا اليَّ كوخَ القَصَبْ
أعيدوا اليَّ تاجَ براءَتي،
أعيدوا اليَّ.. كوخَ الفَرَحْ"
(عكا 2/10/2013)
رسم للفنّان العكيّ وليد قشاش