والسباق مستمر… قصة من التراث الشعبي

 

 

والسباق مستمر
قصة من التراث الشعبي

صعب على الواحد منا ان يرى كيف يلهث البعض وراء سراب يحسبه الظمآن ماء , يركض كما تركض الوحوش في البرية . ومن العار ان نرى التهافت على خدمة شهوات النفس , دون وازع من دين او خلق , بل حتى ادنى مراتب الشهامة والمروءة , تزول عند المصلحة , ويسيل اللعاب من اجل مكسب لا يساوي في ميزان الرجولة الا معنى الذكورة , وسيبقى كذلك ما دام قد أعماه الجاه او المنصب او المال . يذكرني ذلك بقصة من التراث المغربي تعبر عن حالة بعض الناس على اختلاف مسؤولياتهم , وقد نسوا للحظة انهم مستأمنون , وانهم مسؤولون ليس فقط على ذواتهم من حيث كونهم رجالا , بل عن شعب وعن أمة , وعن هوية ودين وتراث وعن مستقبل سيسجل فيه للمحسن احسانه وللمفرط والمتخاذل خذلانه , ولن يرحمه التاريخ ولا الاجيال القادمة . والقصة تحكي
أن راعيا في منطقة جبلية كان يراقب وحيدا ماشيته وهي ترعى بين أشجار البلوط. فجأة يجد نفسه واقفا أمام امرأة حسناء ’ تنظر إليه بابتسامة جذابة. لم يعرف الراعي ما العمل ! نسي أغنامه واقترب من التحفة الجميلة مبهورا ليسألها: سيدتي, هل تقبلين هذا الراعي البسيط الجاثم على ركبتيه زوجا لك ؟!
– قف على قدميك , قالت الحسناء ’ فأنت نعم الرجال الذين يكدحون بالعرق بحثا عن المال الحلال ’ ولما أرفضك ؟ !. كاد الراعي أن يغمى عليه ’ لولا تمسكه بيد الحسناء الساحرة.
– اطلب منك أن ترافقيني إلى بيت “صاحب الماشية ” لنقتسم الماشية ’ وبنصيبي منها نقيم عرسا كبيرا يبقى خالدا في القبيلة .تبتسم الحسناء من جديد ’ ويزيد التصاق الراعي بها غير مهتم بقطيع أغنامه . ويتفق الخطيبان على الذهاب إلى بيت مالك الماشية . نسي الراعي مسؤوليته “مسؤولية الرعاية ” الامر الذي فتح المجال للذئاب كي تفترس القطيع لان المسؤول غائب . يصل الراعي مع حسنائه إلى باب بيت رب الماشية ’ يدق الباب ليخرج مالك الماشية. يصطدم هذا الأخير ببريق جمال الحسناء ’ ولولا استقبال الراعي له لهوى مغمى عليه أمام جمالها ! يعرض عليه الراعي فكرة إنهاء عقد رعي الغنم واقتسام الأرباح. وبدل قبول الفكرة من الراعي ’ توجه مالك الماشية إلى الحسناء ’ مهملا ” راعيه ” ليتحدث مع الجميلة: أنا صاحب المال والقطيع ’ تزوجي بي وابتعدي عن هذا الحقير القذر !! انا تحت أمرك يا صاحب المال ’ وكيف سيتم هذا الزواج السعيد ؟ نذهب جميعا إلى القاضي الحكيم المقيم بالبلد ’ ليرى أيا منا –المالك أو الراعي – يستحقك زوجا سعيدا ؟ . ينسى “صاحب الماشية” زوجته القروية بأبنائها وبناتها العشرة ’ مشغوفا بالحسناء الجميلة ’ مبهورا ببريق روعة نظراتها الأخاذة الساحرة… يتجه الثلاثة إلى منزل القاضي حاكم البلد ’ للبت في إشكالية هذا الجمال الفريد من نوعه. يخرج القاضي من منزله وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال في ملابس من الحرير كأنه ديك رومي ينقر الحب لإغراء الدجاج :
– السلام عليكم .. أنا مالك الماشية ..وهذا منافسي الحقير راعي أغنامي’ وهذه الحسناء قضيتنا ’ وكل واحد منا يريدها لنفسه زوجة وملكا له. فما الذي تراه سيدي عدلا بيننا ؟. يلتفت القاضي الحكيم إلى وجه الحسناء ’ ليشعر بقشعريرة صاعقة تسري بين ضلوعه وأطراف جسمه ’ كان سببها أيضا جمال الحسناء الواقفة بجانبه .
– أرى أن هذا الجمال الرائع الواقف أمامي ’ لا يستحقه إلا من يحكم الناس ’ ويخاف منه الجميع وحتى لا أطيل عليكم في فصول وبنود الأحكام القضائية ’ فاني أنا القاضي المحترم الوحيد القادر على تحمل مسؤولية الزواج بهذه الحسناء !
بدأت الأصوات ترتفع ’ والأيادي تشتبك ’ وكثرت الاندفاعات والمناقشات حول من يستحق الحسناء الجميلة. وفجأة نطقت الحسناء لكي تضع حدا لهذه الفوضى والبلبلة لتقول للجميع:
_ أشكركم على مدى اهتمامكم الكبير بجمالي المتواضع الموهوب من الخالق العظيم . ولكي أكون على صواب تام في اختياري الزوج اللائق ’ دون إثارة احقاد الآخرين ’ فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي لكم , معشر الناس. فأنا اسمي ” الدنيا “. سنقوم بسباق وجري ’ ومن منكم يستطيع لمس جسدي كمتسابق أول ’أصبحت زوجته. فعلا انطلقت الدنيا كالسهم إلى عالم بعيد الافاق ’ ومن خلفها ’ المتنافسون : “الراعي” و”مالك الماشية “و ” القاضي” ببطنه الكبير كالطبل وصلعته اللامعة تحت أشعة الشمس المحرقة من اجل الحصول على الدنيا الحسناء الجميلة , إلى يومنا هذا ’ والسباق مستمر . وإلى الآن لا نعرف متى سينتهي هذا السباق الدنيوي!!

الشيخ محمد ماضي – عكا

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار