السينما الأميركية والاستعمار الثقافي.. لماذا يحتاج العالم إلى سينما جديدة؟

‏السينما من أهم الوسائل التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في فرض الاستعمار الثقافي، ‏فلقد نجحت هوليود في نشر الثقافة ‏الأميركية في العالم؛ ‏والذين يشاهدون أفلام هوليود أصبحوا مستهلكين للمنتجات الأميركية.

‏ونتيجة لتأثير أفلام هوليود، قام كثير من الناس في العالم بتغيير أساليب حياتهم وأزيائهم وعاداتهم الغذائية، وهذا يوضح أن هناك علاقة قوية بين الاستعمار الثقافي والاقتصادي، ‏فالولايات المتحدة تفرض أسلوب الحياة الأميركي لتتمكن من فرض التبعية الاقتصادية على الدول.

‏تمجيد الحياة الأميركية

‏كان من أهم الأساليب التي استخدمتها السينما تمجيد الحياة الأميركية، ‏وتقديمها كنموذج للحياة الحديثة المتحضرة، ‏وكنتيجة لذلك يتقبل المشاهدون فكرة التفوق الأميركي، ‏وشرعية سيطرة أميركا على العالم. ‏لكن، ما دور الحكومة الأميركية في توفير الظروف العالمية لانتشار الأفلام، ‏وسيطرة صناعة السينما الأميركية على العالم؟

‏بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أدرك النظام الأميركي أنه يمكن أن يستخدم السينما في فرض نوع جديد من الاستعمار، ويمكن أن يتحكم في الشعوب باستخدام المنتجات الثقافية التي تتدفق عبر العالم، فتمكنت أميركا من إدارة تدفق الأنباء والمعلومات والأفلام والتسلية.

العولمة ‏والسينما الأميركية

‏ وفرت العولمة منذ تسعينيات القرن الـ20 مناخًا جديدًا للسينما الأميركية، يساعدها على فرض “الأمركة” على الشعوب، ‏حيث تمتعت شركات الإنتاج السينمائي الأميركي بوضع احتكاري ‏في العالم كله في إنتاجها الكبير والمتنوع الذي يوزَّع في كثير من دول العالم، فيؤثر في عقول المشاهدين، ‏ويتلاعب باتجاهاتهم.

‏كما وفرت الدولة للسينما الأميركية كثيرا من الفرص للانتشار والسيطرة الثقافية، ‏فأسهمت السينما في فرض العولمة، ‏وتقليل مقاومة الشعوب لها، ‏وزيادة خضوع هذه الشعوب لأميركا.

تجارة أم استعمار؟

‏شاعت في العالم مقولة هي أن غرض صناع الأفلام الأميركية هو الحصول على المال، لكن: ‏هل هذه المقولة صحيحة أم إنها وسيلة لتزييف وعي الشعوب، ‏وإخفاء الأهداف الحقيقية؟!

‏إن دراسة كثير من الأفلام الأميركية التي انتشرت عبر العالم توضح أنها تعمل لنشر الثقافة الاستهلاكية، ‏التي سهلت نهب ثروات الشعوب، ‏ودفعها إلى عدم تقبل المنتجات الوطنية التي لا يمكن أن تقارن بجودة المنتجات الغربية. ‏ولذلك، تقبلت الشعوب مسألة خصخصة شركاتها الوطنية أو إغلاقها، ‏كما أن السيطرة الاقتصادية للشركات الأميركية العابرة للقارات قامت على أساس تغيير ثقافي فرضت فيه القيم الأميركية.

‏لذلك، فإن الدول النامية تحتاج إلى دراسة متعمقة لدور السينما في فرض التبعية السياسية والاقتصادية عليها، ‏والتأثير على تفضيلات شعوبها.

‏ليست مجرد تسلية

‏هذا يعني أننا لا بد أن نرفض فكرة أن الأفلام وسيلة للتسلية، ‏فهي وسيلة لفرض القيم والسيطرة الثقافية الأميركية، ‏والاستعمار غير المباشر لشعوب انبهرت بثقافة الحياة التي تصورها الأفلام وأسلوبها. لعبت السينما دورًا أساسيا في عولمة ‏الثقافة الأميركية ونشرها في دول العالم، ‏فهددت الثقافات المحلية وأحلّت محلها ثقافة واحدة أحادية هي الثقافة الأميركية، ‏وبذلك أصبح الاستعمار يحتل العقول والوعي بدلًا من أن يحتل الأراضي.

‏تنميط الثقافة

‏وجّه وزير الثقافة الفرنسي هوبرت فيدرين اللوم ‏للسينما الأميركية، لأنها قامت بتنميط الثقافة، ‏ولأنها عملت لفرض السيطرة الثقافية الأميركية على العالم. التنميط يعني بالضرورة تقليل التنوع الثقافي العالمي، ‏وزيادة الشعور بالعجز عن تقديم حلول جيدة وناجعة للمشكلات المحلية في كل دولة، تلك التي تكون نابعة من خبرات البلد الكفاحية والتاريخية وتتناسب مع ظروفها وملابساتها.

‏إذا كان وزير الثقافة الفرنسي قد شعر بخطورة “أمركة” ثقافة العالم على قدرة الشعوب على بناء التقدم والتنمية، ‏على الرغم من أن فرنسا تشترك مع أميركا في الثقافة الغربية.. ‏فإن من حق علماء الدول النامية الضعيفة التي خضعت للاستعمار الغربي طوال القرنين الماضيين أن يحذروا بكل وضوح من خطورة الاستعمار الثقافي الغربي ‏على مستقبل دولهم، ‏وقدرتها على التحرر من التبعية.

رواية القصص بأسلوب هوليود

كان من أبرز تجليات الاستعمار الثقافي أن السينمائيين في كل دول العالم أصبحوا يستخدمون أساليب هوليود في رواية القصص، ‏وأدى ذلك إلى زيادة التبعية الثقافية لأميركا.

كما أدى إلى تقليل التنوع الثقافي والتأثير في ثقافة الدول الضعيفة، ‏وتحجيم قدرتها على إنتاج أفلام تروي قصص كفاحها ضد الاستعمار، ‏أو تقديم تاريخها بأساليب يمكن أن تزيد اعتزاز شعوبها بالانتماء لها.

‏ولأن شركات السينما في الدول الجنوبية الفقيرة تتبع الأساليب السينمائية الهوليودية ‏وتقوم بتقليدها، فقد أسهمت في زيادة شعور الشعوب الفقيرة بالضعف، والعجز، واحتقار الذات، والخوف من القوة الأميركية، ‏وعدم القدرة على المقاومة.

‏كما أدى ‏تقليد تلك الشركات لأساليب هوليود إلى ارتفاع تكاليف إنتاج الأفلام، ‏واستخدام مجموعة قليلة من الممثلين الذين يخضعون لشروط السينما الغربية، ‏ولا يتمردون على أساليبها، ‏وهذا يقلل من قدرة السينمائيين الجنوبيين على المقاومة والتعبير عن كفاح شعوبهم، ‏وعدم قدرة كثير من المبدعين الحقيقيين على الدخول إلى هذا المجال الذي احتكره المتغربون الذين يريدون استخدام السينما لتحقيق أهداف الاستعمار الثقافي الأميركي.

‏وبذلك، تكامل دور السينمائيين ‏الجنوبيين بالانسحاق مع الطريقة الأميركية مع دور هوليود في التأثير على وعي الجماهير، ‏وتسويق أسلوب الحياة الغربية باعتباره النموذج المعياري الذي يقاس عليه، ‏والذي يجب على الدول الجنوبية تقليده لكي تتمكن من تحقيق التقدم المادي.

‏اخضع لتصبح سينمائيا

‏لذلك، لا يمكن الاكتفاء بدراسة دور هوليود ‏في إنتاج أفلام تتلاعب باتجاهات الجماهير و تتحكم فيها، وتخضعها للسيطرة الغربية، ‏لكن دول الجنوب أيضًا تحتاج لدراسة معمقة عن دور هوليود في إخضاع السينمائيين فيها للشروط الاستعمارية الأميركية في الإنتاج والتصوير وكتابة السيناريو والتمثيل. ‏فلقد كان من أخطر وسائل فرض الاستعمار الثقافي على الشعوب الجنوبية الفقيرة التحكم ‏في السينمائيين الذين ينتمون لها، وإخضاعهم للشروط غير المكتوبة التي فرضتها هوليود على العالم.

وطبقًا ‏لتلك ‏الشروط، يُصنع النجوم، ‏ويُختارون ليقوموا ‏بالتقليد، من دون أي ‏محاولة للإبداع أو التفكير ‏في استخدام السينما لرواية ‏قصص شعوبهم، أو تمجيد كفاحها.

المتأمركون يروون القصص

إن الهدف من اختيار النجوم ‏ورفع أرقام أجورهم وتسويقهم ‏وتمجيدهم ليقوموا برواية القصص باستخدام الأساليب الهوليودية هو إخضاع الجماهير للسيطرة الأميركية، ‏وتمجيد أسلوب الحياة الغربية، ‏والهجوم المتواصل على عادات الشعوب الفقيرة وتقاليدها وثقافتها ودينها بغية دفعها إلى الشعور بالدونية والعجز والخضوع، ‏وهذا يسهل لأميركا فرض الاستعمار الثقافي، ‏ونهب ثروات الشعوب من دون مقاومة.

لعب الممثلون ‏الذين يقع اختيارهم طبقا لشروط هوليود دورًا مهمًّا في إخضاع شعوبهم للاستعمار الثقافي الأميركي، ‏فهم يعيشون طبقًا ‏لأسلوب الحياة الغربية.

تبعية ‏السلطات وإكمال الدور الأميركي

‏السينما في دول الجنوب الفقيرة خضعت للسلطات الدكتاتورية التي تساندها أميركا وأوروبا. ‏لذلك، فُرضت نخبة مثقفة متغربة تم تشكيلها طبقًا للأساليب الغربية للتحكم في إنتاج الأفلام واختيار القصص، ‏وما تتضمنه من رسائل تهدف لإخضاع الجماهير للسلطات.

ومن ثم، ارتبطت تبعية السينما للسلطات بتبعيتها لأميركا، ‏وقامت شركات إنتاج الأفلام الجنوبية بالعمل لتحقيق أهداف هذه السلطات الضعيفة التي تعدّ شعوبها عبئًا عليها، ‏وترى أن زيادة عدد السكان تلتهم ‏الموارد وتعيق التنمية على النمط الغربي، ‏وأنه لا معنى ولا قيمة لحياة هذه الشعوب.

‏ولقد لعبت السينما دورًا خطيرًا في فرض عقدة الدونية على الشعوب التي أذعنت ‏لفكرة أنها شعوب متخلفة، ‏وأن الشعب الأميركي المتقدم له الحق في التحكم فيها، ‏فهو ينتج السلع الجميلة التي لا يستطيع المتخلفون الجنوبيون إنتاجها، ‏وهو الذي اخترع الطائرات والسيارات.

‏الانكسار واليأس من تحقيق الانتصار

‏أفلام السينما في الجنوب التي تقلد هوليود لعبت دورها في دفع شعوبها إلى الانكسار واليأس والإحباط والقنوط ‏وفقدان الأمل، ‏والعجز عن تحقيق الإنجاز والانتصار.

‏لذلك، تحتاج هذه الشعوب إلى صناعة سينمائية جديدة يقودها مثقفون ينتمون إلى شعوبهم ويؤمنون بحق هذه الشعوب في الحياة والكفاح والمقاومة والتحرير وتحقيق الاستقلال الشامل.

‏ولبناء هذه الصناعة السينمائية الجديدة، ينبغي تأهيل جيل جديد من نقاد  ‏السينما الذين يجيدون اكتشاف الدلالات، ‏وفهم الرسائل وتوعية الجمهور، ‏كما يجب تأهيل جيل جديد من المؤلفين وكتّاب السيناريو الذين يستطيعون التعبير عن كفاح شعوبهم ورواية قصص نضالها، ‏ومقاومه الاستعمار الثقافي، ‏والتحرر من الشروط السينمائية التي فرضتها هوليود على العالم.

‏كما أن العالم كله يحتاج إلى الكفاح للتحرر من سيطرة هوليود؛ ليبدع أساليب جديدة في التعبير عن الإنسانية التي تشتاق إلى العدل والتحرر من الاستعمار الثقافي.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار