البساطة والعمق في كتاب “أعيشك عكا”… بقلم الناقد رائد محمد الحواري

وسام دلال

البساطة والعمق في كتاب “أعيشك عكا” لوسام دلال خلايلة

بقلم: الناقد رائد محمد الحواري

لكل قارئ معايره  الخاصة في تقيم العمل الأدبي، وهناك  معاير مشتركة يجتمع عليها القراء تتمثل في: متعة القراءة وسهولة المادة المقدمة، اللغة الأدبية، الشكل الذي قدمت به، الأفكار/المضمون الذي يحمله العمل، اعتقد هذه المعاير مشتركة ويتفق عليها غالبية المتلقي، أما التطبيق العملي لما سبق، فيتمثل في تناول العمل في جلسة أو جلستين.

من هنا يمكننا الدخول إلى كتاب “أعيشك عكا” والذي جاء بلغة ناعمة وسلسة ونصوصه قصيرة، حيث تبدو للوهلة الأولى أنها عادية، لكن ما أن يتجاوز المتلقي سطح النصوص، حتى يجد الخصب الكامن في الأرض وعمق جذور الإنسان فيها.

فكتاب جاءت بصيغة أنا الكاتبة، وهذا ما يجعلها قريبة من شذرات شخصية، حيث تبدأ بالحديث عن طفولتها، ثم تنتقل إلى فترة المراهقة، ثم زوجها وكيف انتقلت من مدينة “عكا” إلى القرية بعد أن تزوجت، وتختم النصوص بمشهد وقد أصبحت أما.

ففكرة الكتاب متنامية ومتصلة، من الطفولة إلى الأمومة، الكن الجميل في النصوص أنها قدمت دون تاريخ، فالقارئ يصل إلى نمو/نضوج الكاتبة من خلال مضمون النصوص، وهذا التقديم الذي يحترم عقلية المتلقي يحسب للكاتب ولكاتبته.

إذن هناك احترام لعقلية القارئ وللطريقة التي يتلقى بها النصوص، فالكاتبة لا تتوقف عند تفاصيل الاحتلال، وتكتفي بالمرور سريعا عليها، كما هو الحال في هذا المقطع: ” تبدأ طقوس جيراننا الدينية، يشعلون الشموع ويتجنبون أي استعمال للكهرباء، …يذهبون إلى الكنيس المقابل لبيتنا غربا، وهو بيت عربي أصحابه في الشتات، وساكنوه جعلوه كنيسا لشعائرهم الدينية.

..لم نفهم لغتهم لكننا فهمنا لغة الجسد، ونبرة الصوت التي طالما حاولت إسكاتنا ولجم طفولتنا.

كالبرزخ هو الخندق، فاصل بين من يمارسون الحياة طقوسا، وبين من يعشقونها” ص14 و15،  هذا توصل لنا السارد فكرتها عن المحتل، فهم يقيمون طقوسا دينية (مقدسة) ومن المفترض أن تكون أخلاقية، ولكن، حتى مكان العبادة  مسروق،  وقد تم طرد وتشريد أهله، كما أنهم يحاولون (إسكات) من تبقوا في أرضهم ليقموا بالعبادة كما يريدون، وقد أبدعت الكاتبة وتألقت عندما تناولت فكرة الحياة بالنسبة لمن يقيموا الطقوس ومن يعشقونها الأرض والحياة.

وعندما تتناول فكرة التكاثر الفلسطيني تقدمها بهذا الشكل: “أما جيراننا، فلم يحبوا التكاثر بأكثر من واحد أو واحدة.

فهم أتوا إلى البلاد بعقيدة الغرب، فكانوا ينظرون إلينا بغضب حيت تعلو ضحكاتنا وتخترق شبابيكهم عنوة.

اليوم أدرك أنه لم يكن غضبا فحسب، بل هو خوف من تكاثرنا” ص18، هل هناك أجمل من هذا التقديم لفكرة الصراع على الأرض؟، فالكاتبة تقدم فكرتها دون (زعيق ولا صراخ) بل بلغة هادئة، ناعمة سلسة، ومقنعة، وهذا ما جعل القارئ يستمتع بما يقدم له، إن كان على صعيد الفكرة/المضمون، أم على صعيد  طريقة التقديم.

الفروقات الثقافية والأخلاقية والسلوكية كانت واضحة بين الفلسطينيين وبين ما جاءوا من خلف لبحار،  تحدثنا الكاتبة عن فترة المراهقة وكيف كان سلوك صديقتها “باعيل”: “تصف لنا القبلة الأولى.. وتشير إلى كل الأماكن التي قبلها حتى وصلا إلى…

سألتها: هل أهلك يعلمون؟ هل تعلم والدتك بالأمر؟

ـ طبعا … هي من أرشدتني ونصحتني كيف آخذ حذري من الحمل” ص29و90،  وإذا ما توقفنا عند الموقف الآخر للكاتبة ولصديقتها الفلسطينية عندما كن بعين المرحلة وكيف تصرفتا في مرحلة المراهقة والتي  جاءت بهذا الشكل: ” بين جامع أحمد باشا الجزار وكنيسة الروم، أزقة وزواريب تفوح منها رائحة الكادحين وعبق البحر…

نمشي خطواتنا فيها، فإذا صادفنا الإمام أطأطئ رأسي خجلا ووقارا، فتلقي صديقتي التحية بجرأة وابتسامة “مرحبا شيخنا

نتابع عبر زواريب لنصل ساحة كنسية الروح، هناك صادفنا الخوري وحان دوري في إلقاء التحية…وإذا به رجل شاب وسيم جميل المحيا وليس عجوزا.

استجمعت رباطة جأشي فارتقع صوتي بين رجفة وفرحة “صباح الخير أبونا

وببراءة حلم عذري صار لي الحب الأولى

فكانت أمنيتي الأولى أن أصبح راهبة!” ص32و33، بداية تشير الكاتبة إلى المكان بتفصيله، وهذا يأخذنا إلى علاقتها الوطيدة به، كما أن التقارب المكاني  بين المسجد والكنسية، ووجود الشيخ والخوري يشير إلى المجتمع الفلسطيني المتعدد والمتنوع، وعندما تحدثت عن تحية الشيخ وتحية الخوري، وكيف تقاسمت التحية مع صديقتها، أكدت على أن هذا التعدد المنسجم والمتوحد، وتوجت هذا الطرح الوطني الاجتماعي عندما تحدثت عن مشاعرها كمراهقة وكيف أن وقعت في حب الخوري الشاب رغم أنه مسلمة، بهذا الشكل الكامل، وصلت لنا فكرة عن طبيعة المجتمع الفلسطيني وكيف أن وحدته الوطنية تتجاوز الدين.

وعن فترة المراهقة تحدثنا كيف كانت تنتشي وصاحباتها بمعاكسات المراهقين “القصائد” بمشهد ناعم وهادئ:  لم يكن سوق “عكاظ” .. وما هم شعراء الجاهلية في الغزل، بين الأزقة في طريقنا من إلى  السوق (أنا وصديقتي).

(كسائر البنات) كانت القصائد تتطاير صوبنا مختزلة بصفير أو كلمة (أيش يا حلو…)، (يسعدلي…)، (دخيلووو…)، أموت بالسمك…)…

هو يجهر، ونحن نطيل الطريق …حتى أننا بخلنا بالالتفات إلى الوراء لنتعرف إلى ملامح الشاعر!

تتهافت القصائد وتتزاحم..

فنشرئب أنوثه، متجاهلات حضور الشاعر.. يعني يتمتعن وهن راغبات” ص37، المراهقة وما فيها من نشوة، خاصة عندما تأتي من الطرف الآخر، فعندما سمت (المعاكسات) قصائد أشارت إلى حالة النشوة التي كنت بها وصديقتها عندما كن يستمعن إلى هؤلاء (الشعراء)، وكأنها من خلال استبدال (المعاكسات) بالقصائد أرادت كسب موقف القارئ لها ولصديقتها وأيضا لهؤلاء المراهقين، بحيث لا ينظرون إلى هذا الفعل نظرة شاذة، فهو سلوك سبب  لكل من شارك فيه الفرح، وهذا يكفي ليكون فعل محمود.

وعن العلاقة مع أولئك القادمين من خلف البحار وكيف يتعاملون معها، تحدثنا عن أهل “باعيل”: “مدت كف أصابعها نحوي كدعوة لأمسك بيدها البريئة.. فاستثار أبوها وصرخ بصوته المرتجف منبها إياها بلغته “لا! احذري! احذري منها! هي عربية ممنوع أن نسمك يدها… ممنوع نمسك يد عربية!” ص69، رغم أن المقطع يحمل حداثا قاسيا، إلا أن الكاتبة قدمته بشكل ناعم، بحث لم تتناول أثره عليها كفتاة وكمراهقة، وهذا أزال شيئا من القسوة التي فيه، فبدا وكأنه مشهد متعلق بشخص/بشيء بعيد عنا نحن المتلقين، وهذا ما جعل الكتاب خفيف الظل على القارئ. 

وعندما ذهبت لتحصل على هوية شخصية كان هذا الحوار بينها وبين الموظف: ” ـ ما أسمك؟ أجيب فيسجل … يسأل صديقتي كذلك ثم يسجل

ـ ما ديانتك؟

تبادلنا النظرات أنا وصديقتي، ساخرات من السؤال… فإن ديانتنا عربية” ص106، بهذا البراءة تم الإجابة على السؤال، فالديانة في المجتمع الفلسطيني لا تفصل/تفرق بين أفراد المجتمع، فالجامع/الموحد في فلسطين أكبر من أن يشوه هذا الانتماء أو ذلك.

الكتب من منشورات الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، ودار جسور للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2023.

الناقد رائد محمد الحواري

حوّارة نابلس

   

  

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار