زمنُ المَحلِ… بقلم: سهير شحادة

سهير شحادة

زمنُ المَحلِ

حدثَ مرّةً أن حلّ القحطُ في منطقةٍ واسعةٍ من الأرضِ، وهو أَمرٌ لم يتوقّعه سُكّانها؛ فالسّنوات المنصرمة أَظهرت حُسن نواياها وأَكثرت من عطاياها من سيولٍ وأَمطارٍ وخيراتٍ كثيرةٍ. راحت عقولُ الشّيوخِ وكبار الحكماءِ تفكِّر مَلِيًّا بالكارثةِ الّتي حلَّتْ على رؤوسِ أَصحابها؛ فَمِنْ أَينَ يأْتونَ بالمحاصيلِ والغلالِ، وكيفَ سيسدّون جوع البطون الّتي ما عادت تكتفي بالقليل من الزّاد؟!  والينابيع هي أيضًا شحتّ مياهها ونضَبت مواردها بعد أن كانت تفيض خيرًا كَسَحاب مِدرار.
اجتمع الحكماء والفُقهاء من أَهل العلم والخبرة، وانتهت المناقشات والجدالات فيما بينهم دون الوصول إِلى حلٍّ مُرْضٍ.
مرّت أَيّام عصيبة على تلك البقعة من الأَرض، وكشَّرت الكارثة عن أَنيابها، بعد أَن نفثت عوارضها في عروق المسكونة وفي أَراضيها الجرداء حيث الأَجواء المُغبَرّة، وحيث لا يجدُ الإنسان سوى حفنة من الحظِّ العاثر.
في يومٍ ما وعلى حين غرّة، لاحت في الأُفق غيمة كبيرة تتشّح بِلَوْن يشعُّ نورًا وبهاء. تهلَّلت المعمورة كافّة، ورفعت ذراعيها نحو السّماء تبتهل وتصلّي بحرارة، مُعلِّقة كلّ آمالها على تلك الغيمة، لعلّها تطلق من جوفها عناقيدَ غيومٍ محمّلة بالأَمطارولعلّها تمسح بعضًا من مآسيهم الّتي باتت مُزمِنة.
طالت الصّلوات والابتهالات والغيمة تلك لا تزال تمكث في مكانها دون حراك، كأَنّها مسمار حديديٍّ صلدٍ يأْبى النّزوح إِلى غير عنوان.


غيمة بلهاءصمّاء صمم الحجر…”،تجولين في غمد اللّيل ووضوح النّهار، تختالين رافِلةً، مُلتحِفةً بذيول مُثقَلة بالأمطار، كيف تقبعين في العُلا بكبرياء دون اكتراث منك لسوء حالنا وضياع عمرنا…”،أَلا يكفيك ما تظهرينه من عناد وقسوة؟! هلُمّي واسْقنا من مائكِ، يكفينا بؤسٌ وشقاء…”.
سمعت الغيمة ما قيل في حقّها، فردَّت قائلة:
لقد أَصغيتُ إِلى آهاتكم العليلة، لكن ما بيدي أَيّة حيلةحمولتي نَفِدَت كنفاد صبركم، وها أَنا مثلكم، أَقطع الأميال والمسافات عبثًافلا الماءُ أَتى ولا المَحْلُ انجلى

كاذبةٌ أنتِنراك تتسكّعين منذ أيّام فوق قمم السّماء، تنعمين وتتلذّذين كتِنّين يحتفل بِفرائسهِ الضّعيفة كلّ حين“. صرخوا في وجهها.
يا لقساوة قلوبكملقد أَسقيتكم كثيرًا من منبعي طوال الوقت، وكنت الملجأ الأمين لكم عند العوزكم همستِ الشّفاهُ في سِرّكُم، بأَنّ تحترزوا من الأيَّام الآتية، فهي تنبئ بقسوة لا مثيل لها، لكنكم آثرتُم صَمَّ آذانكم منغمسين في زيف الحياة.
لم تتمالك الأَصوات النّائحة نفسها وراحت تصرخ، فتعالى ضجيجها يطالب بوجوب محاربة الغيمة ومعاقبتهاونسيت مصائبها وما حلّ بها من نوائب، وراحت الجلسات تنعقدُ من جديد بين الشّيوخ والحكماء والفقهاء، فأَخذوا يتداولون ويتناقشون في أَمر الغيمة الّتي لا ذنب لها في مصابهم الأَليم، وصارت أَفكارهم تطول ثمّ تقصر، وأَصواتهم تعلو في حين وتنخفض في حين آخر.
وفي تلك الأثناءأَيقنت الغيمة بأَنّ لا مكان لها هنا في تلك البقعة من المكان، وغادرت بهدوء بعيدًا عن الصّخب والضّوضاء.

بقلم: سهير شحادة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار