هل سيؤثر الزلزال على اقتصاد تركيا وسياستها الداخلية والخارجية؟

أردوغان

في 6 فبراير/شباط ضرب زلزالان قويان محافظات تركيا الجنوبية الشرقية، ومناطق شمال غربي سوريا، الأول بقوة 7.7 درجات على مقياس ريختر مركزه قضاء بازارجيق بولاية كهرمان مرعش جنوبي تركيا، فيما ضرب الآخر قضاء إصلاحية بولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا.

ويُعَد هذا أقوى زلزال يضرب تركيا منذ 100 عام تقريبا، حيث سرعان ما أفضى إلى كارثة مدمرة أسفرت عن مقتل نحو 40 ألف شخص في تركيا وأكثر من 5 آلاف في سوريا، كما ورد أنه دمر وألحق أضرارا متفاوتة بأكثر من 70 ألف مبنى في المناطق المتضررة من تركيا، فضلا عن أضرار بالغة بالطرق، وأخرى متفاوتة ببعض المطارات في المنطقة، وقد أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في الولايات العشر الأكثر تضررا (كهرمان مرعش، أديامان، ملاطيا، كيليس، غازي عنتاب، عثمانية، شانلي أورفا، أضنة، ديار بكر، وهتاي) قبل أن تضيف ولاية إيلازيغ للقائمة في وقت لاحق، ودعت إلى حداد وطني لمدة سبعة أيام.

ما بعد غبار الكارثة: غموض محلي وهدوء خارجي

لطالما أطلقت الكوارث الطبيعية تداعيات سياسية محلية وأخرى جيوسياسية خارجية خارج تخطيط الحكومات، وليس معنى هذا أن هذه العملية تكون في اتجاه واحد، فكما أن قوى المعارضة يمكنها أن تستفيد من الحدث بالتشكيك في قدرة الحكومة على إدارة الأزمات بكفاءة، فإن الحكومة يمكنها بالمقابل أن تستفيد من قدرتها على تعبئة موارد الدولة في تقديم نفسها أمام الرأي العام المحلي باعتبارها قيادة فعالة في التعامل مع تداعيات الكارثة.

في تركيا تحديدا اتُّهِمت حكومة “بولنت أجاويد” بسوء إدارة أموال الإغاثة والفشل في تحسين البنية التحتية في أعقاب زلزال إزميت المدمر عام 1999، والذي تسبب في أضرار بمليارات الدولارات في وقت كانت فيه البلاد تواجه بالفعل أزمة اقتصادية أكبر، وقد سلطت هذه التداعيات في حينه الضوء على ضعف قيادة الحكومة وفشل سياساتها الاقتصادية، ما مهد الطريق بصورة مؤثرة أمام فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات عام 2002.

الآن تقف تركيا على أعتاب انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة كانت الحكومة تخطط لإجرائها في منتصف مايو/أيار، وبينما لم تكن نتائج الانتخابات محسومة فإن تداعيات زلزال كهرمان مرعش جعلتها دون شك أكثر غموضا، حيث يمكن لمشاعر الغضب والحزن أن توجه الناخبين ضد الحزب الحاكم، كما يمكن للحكومة إذا واجهت الأزمة بكفاءة أن تعيد تأكيد موقع حزب العدالة والتنمية باعتباره جهة موثوقة للناخبين للرهان عليها مجددا.

 

التداعيات الاقتصادية

تمثل الولايات العشر الأكثر تضررا من زلزال تركيا 15٪ من سكان البلاد (ما يقارب 13 مليون نسمة)، لكنها من الولايات الفقيرة نسبيا في تركيا، وتسهم مجتمعة بحوالي 9٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بما يشمل تقريبا 15٪ من الناتج الزراعي، و9٪ من الصناعة، و8٪ من التجارة الخارجية.

ومع الأهمية النسبية لهذه المناطق اقتصاديا، فإن التقييم المبكر يميل لاعتبار أن التأثير الاقتصادي للزلزال سيكون محدودا وقصير الأجل، في ظل أن المراكز الصناعية والتجارية الخمسة الكبرى في إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة وكوجالي (53.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي) بعيدة عن آثار الزلزال، وهو نفس الحال لمراكز السياحة الرئيسة في البلاد: إسطنبول وأنطاليا وأدرنة (76.7٪ من إجمالي عدد السياح)، وحتى في الولايات المنكوبة لن يتأثر كل الإنتاج (مثل الزراعة)، ولا يبدو أن الضرر الذي لحق بالبنية التحتية الإستراتيجية واسع النطاق وطويل الأمد، مثل خطوط أنابيب الغاز الرئيسة، ومصافي النفط، والمطارات (عدا مطار أنطاكية الذي أصبح خارج الخدمة)، والموانئ الرئيسة، باستثناء حريق في ميناء إسكندرون.

على المدى القصير من المتوقع أن تؤدي صدمة الكارثة وجهود توجيه السلع الأساسية للمناطق المنكوبة إلى إعاقة جهود الحكومة لاحتواء التضخم، وفي المقابل يُتوقَّع أن يتلقى ميزان المدفوعات دعما من تدفقات المساعدات لدعم جهود الإغاثة والتعافي قد يساعد في ضمان استقرار الليرة في الفترة التي تسبق الانتخابات، لكن من المرجح بعد الانتخابات أن تتخلى الحكومة والبنك المركزي عن الدفاع عن قيمة الليرة، وستكون الحاجة ملحة لتعديل أسعار الصرف.

من المتوقع أيضا أن يتأثر عجز ميزانية الدولة، والذي كانت التوقعات الحكومية تضعه عند 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي بمستوى يتوقف على حجم المساعدات الخارجية، وقد يتأثر كذلك نمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وإن كان من المرجح ألا يكون التأثير بنفس الأهمية مقارنة بزلزال 1999 حين انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 3.3٪، حيث سيسهم الإنفاق على جهود إعادة البناء، والتي يُتوقَّع أن تطلقها الحكومة قريبا، في تحفيز النمو، وتشير الدلائل من الزلازل السابقة إلى أن الاقتصادات يمكن أن تعوض بسرعة إنتاجها المفقود، حيث استمر الناتج المحلي الإجمالي في النمو في أثناء وبعد زلزال كوبي الياباني عام 1995، وكان هناك انتعاش قوي عقب زلزال نيغاتا في اليابان أيضا عام 2004، بينما نجحت تشيلي في تعويض آثار زلزال 2010 بالكامل في ربعين.

ومع هذا فإنه من المهم تأكيد صعوبة الجزم المبكر بحجم الخسائر الاقتصادية الإجمالية للزلزال في ظل عدم الانتهاء من حصر الأضرار، وهو ما ينعكس على التفاوت الكبير في تقديرات بعض الجهات، فمثلا يتوقع اتحاد الشركات والأعمال التركي (TÜRKONFED) أن يتسبب الزلازل في أضرار بنحو 70.8 مليار دولار للمباني السكنية، بالإضافة إلى 10.4 مليارات دولار في الدخل القومي، كما ستكلف خسائر القوى العاملة الاقتصاد التركي 2.9 مليار دولار، تثير هذه الحصيلة الإجمالية البالغة حوالي 84 مليار دولار تساؤلات في ظل أن تقديرات أخرى قدرت الخسائر بأقل من ذلك بكثير، وهو ما دفع بنك “باركليز بي إل سي”، لتأكيد أنه من السابق لأوانه تقييم التأثير الكامل للزلزال حاليا.

الانعكاس على السياسة الداخلية والانتخابات

من المرجح أن تشهد تركيا لحظة وجيزة من الوحدة والتضامن الوطني في أعقاب الزلزال المدمر، لكن أغلب الظن أن المعارضة ستعمل على انتهاز الفرصة للإشارة إلى أن البرامج الاقتصادية التوسعية لحزب العدالة والتنمية، مثل رفع الحد الأدنى للأجور، والحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة، ستؤدي إلى إجهاد القدرة الاقتصادية لتركيا على إعادة بناء خسائر تُقدَّر بمليارات الدولارات بسرعة، وستتعزز حجج المعارضة الاقتصادية إذا كانت تعهدات المساعدات الدولية أقل من تقديرات الأضرار، ما يعني تحمُّل تركيا المزيد من العبء المالي لإعادة الإعمار.

بالإضافة إلى ذلك فإن التقارير حول سلامة المباني ومطابقتها لمعايير مقاومة الزلازل وأثر ذلك على ارتفاع عدد الضحايا في هذه الكارثة، ستشكل مادة مهمة للمعارضة للتركيز عليها، مع ربطها مع مرور الوقت باحتمالات الفساد الحكومي والإداري في البلديات الذي دفع بعض شركات البناء إلى تجاهل اللوائح المصممة لزيادة مقاومة المباني للزلازل، لذلك سارعت السلطات التركية إلى توقيف عشرات من مقاولي البناء، وفتحت تحقيقات ضدهم حول مزاعم مخالفة معايير البناء.

في النهاية من المحتمل تأجيل موعد الانتخابات في ظل خسائر البنية التحتية وانتقال مئات الآلاف من السكان وربما ملايين خارج ولاياتهم، وفقدان الآلاف منهم لأوراقهم الثبوتية، وهو ما يمثل تحديات لتنظيم عملية الاقتراع في المناطق المتضررة، والأهم من ذلك أن قرار تأجيل الانتخابات سيرتبط أيضا بتقدير الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم لرؤية الرأي العام لكفاية استعدادات الحكومة للزلزال بشكل مسبق، وكذلك لاستجابتها وكفاءتها في إدارة الأزمة.

في ظل هذه الظروف المعقدة يواجه الرئيس “رجب طيب أردوغان” أحد أصعب الاختبارات في فترة حكمه التي استمرت 20 عاما، ومع ذلك سيبقى الرهان على إدارة “أردوغان” للأزمة بشكل مبادر كعادته، وأن يتصدر جهود التعافي وإعادة الإعمار، ما يعزز فرص إعادة انتخابه والحد من التداعيات السلبية للأزمة، ويُلاحَظ هنا أن “أردوغان” لجأ مباشرة لتفعيل “مستوى التنبيه الرابع” لسرعة حشد فرق الإنقاذ والمساعدات الدولية، وهو نهج مختلف عن إدارة أزمة حرائق الغابات الهائلة في صيف 2021.

التداعيات الجيوسياسية

مع وصول المساعدات الدولية بسرعة من الحلفاء واللاعبين الإقليميين، وحتى من دول مثل فرنسا واليونان التي تصاعدت معها التوترات الجيوسياسية مؤخرا، فمن المرجح أن تتحسن العلاقات، وأن تكون مخاطر التوترات الإقليمية الجيوسياسية أقل، على الرغم من أن هذا من المحتمل أن يكون قصير الأجل، نظرا للخلافات الراسخة والاستقطاب الانتخابي في تركيا، خاصة إذا استأنفت اليونان جهود تغيير الوضع القائم في جزر بحر إيجة.

كما تُظهِر الاستجابة الواسعة لنداء المساعدة الدولية مكانة تركيا، وبالتبعية نجاعة سياسة “أردوغان” الخارجية، حيث بادرت الأطراف المتصارعة كافة فيما بينها (مثل روسيا والغرب، أو إيران، وحتى دولة الاحتلال الإسرائيلي) بالمشاركة في جهود الإنقاذ، كما أن الحكومة ستعمل على إبراز هذا الأمر باعتباره نتيجة لسياسة تهدئة التوترات الإقليمية التي انتهجها “أردوغان”، ونتج عنها تلقي تركيا دعما إغاثيا من السعودية ومصر والإمارات ودولة الاحتلال وحتى اليونان، وهو أمر ربما كان مستبعدا قبل عامين.

وبينما من المرجح أن تسهم قطر بفاعلية في جهود التعافي وإعادة البناء، فإن المؤشر الحاسم حول حرص دول الخليج الأخرى، خاصة السعودية والإمارات، على الاستثمار في علاقة إستراتيجية مع تركيا، وليس مجرد احتواء توتر العلاقات، سيظهر في مستوى الدعم المالي الذي ستقدمه لبرامج إعادة البناء، وبرامج الدعم الاقتصادي للمتضررين من الزلزال، والتي ستمثل عبئا على ميزانية الدولة المثقلة بالفعل ببرامج الدعم والإنفاق الحكومي الاجتماعي التوسعية التي أقرتها الحكومة خلال الأشهر الأخيرة لمواجهة موجة التضخم.

لكن حالة التضامن الدولي تلك لا تعني أن الحسابات الجيوسياسية الأوسع ستكون غائبة، حيث ستراقب تركيا مستوى الدعم الحقيقي المقدم من دول أوروبا والولايات المتحدة، والذي ستنظر إليه أنقرة باعتباره رسالة سياسية لا ترتبط فقط بقضايا خارجية مثل ملف عضوية السويد في الناتو، ولكن أيضا قد تفسره بتعمد هذه الأطراف الضغط على الحكومة محليا قبيل الانتخابات، وبينما لا يزال الموقف الصيني غامضا، فإن احتمالات الدعم الروسي لا يمكن استبعادها، خاصة إذا تقاعس الغرب عن تقديم دعم معتبر، فقد لا يتمكن الرئيس الروسي “بوتين” من تقديم مساعدات مالية، لكنه قادر على دعم تركيا بشحنات من الغاز على سبيل المثال، وهو لا يقل أهمية أبدا عن الدعم المالي، لأنه سيوفر لميزان المدفوعات التركي فائضا يمكن للحكومة توجيهه لتسريع جهود البناء دون أي أعباء إضافية على الميزانية.

بالانتقال إلى سوريا المجاورة فإنه من المرجح أن يواجه شمال غرب سوريا أيضا حالات من عدم الاستقرار الاجتماعي، حيث سيؤدي الزلزال إلى زعزعة استقرار هيكل الحكم الهش بالفعل، فقد كانت إدلب وحلب أكثر المناطق تضررا في سوريا، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام على الأولى، والأخيرة منقسمة بين قوات النظام السوري والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وتضم هذه المناطق عددا كبيرا من اللاجئين النازحين داخليا، وتعتمد بشكل كبير على المساعدات من تركيا، ولكن مع مواجهة تركيا لذات الأزمة، والعقوبات الدولية التي تعرقل المساعدات لسوريا، تعثرت بشكل كارثي الاستجابة الدولية للاحتياجات الطارئة لسكان إدلب وشمال حلب، وهذا يمكن أن يُعرِّض الاستقرار الاجتماعي الهش للخطر.

تسببت زلازل 6 فبراير أيضا في أضرار واسعة النطاق في الأراضي السورية الواقعة تحت الحماية التركية، وقد يعني هذا استبعاد قدرة حزب العدالة والتنمية على المضي في مخطط إعادة توطين مليون لاجئ سوري، من بين 3.6 ملايين لاجئ يعيشون في تركيا، والذين أصبحوا هدفا للمعارضة لتعبئة المشاعر القومية ضد الحكومة في الفترة التي تسبق الانتخابات، وقد تكون المعارضة التركية أقل حماسا في استخدام ورقة إعادة اللاجئين السوريين خلال الحملة الانتخابية بنفس الزخم السابق، في ظل حالة النزوح الداخلي لعدد واسع من المواطنين الأتراك خارج الولايات المنكوبة، وتفاقم المعاناة الإنسانية في الشمال السوري نتيجة الزلزال، ومع هذا ستظل الخطابات القومية المعادية للاجئين والأجانب ضمن أجندة بعض أحزاب المعارضة التركية، وهو ما يجعل من غير المتوقع أن تتراجع الحكومة عن الإجراءات والقوانين التي تبنتها بخصوص الأجانب واللاجئين خلال العام الماضي.

____________________________________________________

هذا المقال منشور بالاتفاق مع موقع أسباب. للاطلاع على المقال الأصلي من هنا.

المصدر : الجزيرة
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار