تكامل الشكل والمضمون في ديوان ” ليل واسطورة ” للشاعر صالح أحمد كناعنة

د. منير توما

تكامل الشكل والمضمون في

ديوان ” ليل واسطورة ” للشاعر

صالح أحمد كناعنة

—————————————————-

بقلم : الدكتور منير توما

كفرياسف 

يرى ت. س. إليوت أنَّ ” الشعر ليس تعبيراً عن مشاعر , وإنما هو تخلّص من المشاعر , وليس تعبيراً عن ذات الشاعر وشخصيته , وإنّما هو تخلّص منهما , فالشعر ( خلق ) . وهذا الخلق إنما هو ثمرة التوازن بين العقل والعاطفة , فالشاعر ينفعل بموضوعه ويتعاطف معه , وعليه ألّا يعبّر عن انفعاله , بل عليه أن يوجِد لهذا الانفعال ( معادلاً موضوعياً ) يساويه ويوازيه ويحدده , ويعين الشاعر في ذلك عقله ويعين الشاعر في تجسيد انفعاله فيما يعادله لغته , أي أن الشاعر يحوّل عواطفه وأفكاره وتجاربه الى  شيئ جديد أو الى مركب جديد , الى خلق جديد ” .

واستناداً الى هذه المعاني , فإنَّ الشاعر صالح أحمد كناعنة قد وظّف هذه الأفكار في بنية قصائده , في مجموعته الشعرية ” ليل واسطورة ” شكلاً ومضموناً .

فشاعرنا قد استخدم لغته لتتواءم وتتساوق مع المضامين التي طرحها في شعره . فهو يميل الى رصانة المعاني ومتانة الشكل بصورة تجعل منهما وحدة متكاملة جديرة بالإهتمام والدراسة .

إنّ الشاعر صالح أحمد كناعنة يقوم في هذا الديوان بعملية تحقيق حالة من التوازن بين الوعي الفني والفكري في شخصيته الشاعرية الإبداعية , ويعتمد في هذا النوع من البناء الشعري على عمق مخيلته واتساعها كشاعر يريد أو يحاول الربط بين شعوره بفردية الحياة وبين حقيقة العالم حواليه , لأنه ومن خلال تفكيره الدرامي يدرك أنّ ذاته لا تقف وحدها معزولة عن بقية الذوات الأخرى , وعن العالم الموضوعي بعامة , وإنما هي دائماً , ومهما كان لها استقلالها ليست إلّا ذاتاً مستمدة من ذوات تعيش في عالم  موضوعي تتفاعل فيه مع ذوات أخرى .

وتتجلى هذه الدلالات في العديد من قصائد الديوان , ومن هذه القصائد قصيدة : ” وطنٌ بلون يدي ” ( ص23 ) حيث تبدأ القصيدة بالنص التالي :

أليس َ لغربتي حدٌّ ليبصرني طريق ٌ ما …

ويأخذني الى ما تشتهي لغتي ؟

وهذا التيه ُ يوغل ُ في دمي عُذراً .. ويَعصِرُني

لترثيني يدي والخطوة العذراء ُ ,

في صحراء َ لم تعرف بها موؤودةٌ رحما .

على صدري تقاطَع َ جدول ٌ أعمى ,

وأغنيةٌ بلا وزن ٍ , وأزمان ٌ بلا شمس ٍ ولا قمر ٍ ,

وأجيالٌ بلا أنثى ,

وكهفٌ ملّت ِ الأسفار ُ وحشتهُ …

فمالت عنه , تتبَعُ صوت أسطورة .

أليس َ لغربتي لغة ٌ يخاطبني بها  برق ُ الفجاءَة ِ يا …

زمانَ الوصل ِ  في صحراء َ لم تعشق بها موؤودة ٌ نجما ؟

إنَّ في نص القصيدة هذه  نلمس الطابع الدرامي  للكلمات  في  سطور ٍ تَتّسِم  بروح  المناجاة     

في عالم الدراما أي في هذا انتقال من الغنائية الى الدرامية في التوجه الخطابي , وهذا ما soliloquy

تشهد به هندسة الكلمات في القصيدة .

لقد اشتغل شاعرنا في قصائده على ربط الرؤيا بالواقع عن طريق الكشف , فالرؤيا كشف , وهي نظرة تخترق الواقع الى ما وراءه , وكأن شاعرنا في مراحل متنوعة من قصائده يميل الى أن يكون سريالي النزعة . فهو عن طريق البحث عن الثورة في تغيير الواقع , واستعمال اللغة أداه لهذا التغيير وهذه الثورة . وهذا ما يجعل طبيعة شعر الأستاذ صالح أحمد كناعنة هنا , طبيعة تنبؤية رؤياوية على نحو أساسي حيث برز في قصائده ِ اتجاهات في الرؤيا , هما رؤيا الخلاص , والرؤيا الدرامية .

ففي رؤيا الخلاص ينزع الشاعر الى المواجهة لتحقيق الذات الشاعرة , للانتصار على

لتحقيق شيء من الإنبعاث في مواجهة    estrangement    والاغتراب ( anxiety القلق (

أشكال الغياب والحركة بما  يشبه اكتمال الذات أمام نقصان الواقع .

أما الرؤيا الدرامية , فهي الأبعد مدى والأوسع أفقاً , لأن النزوع الدرامي يفتح للرؤيا الشعرية طرائق تعبير أكثر انفتاحاً وشمولية على أبعاد الحياة. ففي قصيدة ” مطرٌ لنيسان ٍ ولود ” ( ص 48 )  تتضح هذه الرؤى في السطور التالية من النص :

لا شيء َ يذكُرُني

ذكرت ُ مواجعي

فنغما شراع ٌ بين أغنيتي وأمنيتي , وحاصرني السؤال :

هل كان للمطعون أن يحيا ولم يطعن عذابه ؟!

كان المساء ُ مطأطئاً  ..

وعيونُهُ اختزنت دهوراً من ضباب ٍ ..

في غياهب َ من جُمود .

كان الغروب ُ يطيل ُ اثار الذهول ْ

والصوت ُ بئرٌ تستقي لُجَجَ الخفاء ْ

يا للعطاء !

البئرُ أنثى تعصرُ الأحداث ُ نهديها …

وتُهديها أحاديث الحيارى والسكارى والبغاة 

يبقى المساء ُ مطأطئاً …

ولديه ِ من سكراته ِ  ما يشتهي عُهراً فلاسفة الكلام .

يُلاحظ في هذا النص من القصيدة أنّ هناك رؤية تستند على موقف فلسفي وميتافيزيقي من الحياة , وبالتالي هناك ثقل دلالي جوهري يعرب عن نفسه من خلال صِيَغ بنائية أو لفظية جديدة , تأتي الكلمات فيها منحرفة عن دلالتها مما يشّكل حاجزاً بين النص الشعري والفهم , وهنا يبرز الغموض في طبيعة الشعر ذاته .

من اللافت أنّ شاعرنا في قصائد هذا الديوان يعتمد الإيقاع النثري بحكم نوعية هذه القصائد الحداثية , وذلك باستعمال موسيقى الفِكر التي تعتمد على التوازي والترادف والتباين والتنظيم التصاعدي للأفكار الى جانب ترديد السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة وذلك يتجسّد في قصيدة  ” ريح ٌ وأوتار” ( ص 88 ) حيث يقول شاعرنا في السطور الأولى منها :

غداً يا سائقَ الأحزان ِ تنعاني وتنعاكَ

رياح ٌ زمجرت وعداً بما تجنيه ِ كفاك َ .

                  ****

نجومي لم تزل تُلقي على أمسي تحيتها

وأهدابي تتابع نبضها المسكون بالرعشة

على قلبي تمرُّ جحافل ُ الأوهام ِ

تعزف ُ لحنها صمتاً على وتري

وتمضي .. تصخب ُ الأبعاد ُ في وعيي

وتنهضُ رحلة ُ الخَدَرِ .

بلا زاد ٍ , تراودني على وجعي

وكم تقتات من ضجري

يهيجني خيال ٌ طار َ ,

قلب ُ الريح ِ لم يبصره ُ

راحَ يسائل ُ الظلماء َ عن أفُق ٍ ,

وكان َ البرد ُ أغلق َ شُرفة َ الحِسِّ !

وباتت رعشتي يا سائق َ الأحزان ِ تُحصي أدمعَ العَتم ِ .

إن شاعرنا في هذه القصيدة يستخدم لغة ً أكثر توتراً وإيحاء وذات ظلال متعددة , فهو يختار الكلمات ذوات الدلالات المتعدّدة  , لتكون هذه الألفاظ أكثر قدرة على الإيحاء بالمضمون الانفعالي والعاطفي والفكري . كذلك , فإنّ ما يميز الشعر في هذه القصيدة كغيرها أيضاً من قصائد هذا الديوان هو عنصر الموسيقا الواضح والصياغة الشعرية الفريدة إيقاعياً .

وبتتابع قراءتنا لقصائد الديوان نأتي الى قصيدة ” احتاج الى نور ” ( ص 118 ) حيث نرى فيها فرادة موضوعية ذات صبغة ذاتية , يتطرق فيها شاعرنا الى كون الشعر تعبيراً عن العواطف ولو بشكل ضمني في بداية القصيدة حيث جاء فيها هناك :

فجري يحتاج الى قبس ٍ لم تطلقه ُ يدٌ راعشة ٌ

خلف َ جدار ِ الوهم , وتحت سماء ِ الرهبة

نورٌ يأخذني من ناصية الليل

الى أفق لا تدنوه الصُدفة

يجعلني أشعُرُكم أعمى عشت ُ

لا أُبصرُ إلّا أسئلة ً لا تشبهني

وزماناً ما عاد يلائم ُ أوردتي

ودمي المسكوب أعلى لغتي .

ويضيف شاعرنا في ختام هذه القصيدة سطوراً أكثر وضوحاً وتصريحاً بحاجته ِ الى عاطفة الحب عن طريق الإيحاء واللامباشرة حيث ورد هناك :

احتاج ُ الى ضوء ٍ يغسلني

ينزع ُ كل ثياب ِ الظلمة ِ عني

علَّ عيون َ الورد ِ الباحث ِ عن أفق ٍ تُبصِرُني …

عاصمة ً للحب ِ وللأطيار

تنسيني أني زرت ُ زماناً يغرق ُ فيه الحب َّ

وتحترق الأفكار .

وعموماً , فإنَّ هذه القصيدة بشكل ٍ لافت وغالب تمثِّل التجربة الشعورية لشاعرنا بما لها من خصوصية في عمله الشعري في هذا الديوان مما استرعى الرمز ” كثياب الظلمة ” و ” عيون الورد ” على سبيل المثال لا الحصر , وذلك كي تجد فيه ِ التفريغ الكلي لما تحمل من عاطفة أو فكرة شعورية .

وأخيراً وليس آخراً , فإن الشاعر في هذا الديوان قد قدّم لنا نظاماً خاصاً مقنعاً وفريداً ليحفظ للقصائد شعريتها , تمثّل في الاستعمال الخاص للغة الشعرية , ووحدة الجملة الشعرية , التي تكوِّن البناء لها شكلاً ومضموناً لتكتسب فيه اللغة الشعرية عنصرها الأساسي المتمثل بالطاقة اللغوية عن طريق الآليات الموحية .

وختاماً , أجمل التهاني للشاعر الكريم الأستاذ صالح أحمد كناعنة , وأصدق التحيّات مقرونة بأطيب التمنيات له بموفور الصحة والمزيد من التوفيق والإبداع والعطاء .

        

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار