حصار مدينة عكا كما اوردته وثائق المحفوظات الملكية المصرية

حصار عكا كما اوردته وثائق المحفوظات الملكية المصرية

د. جوني منصور- مجلة الفنار العكي

 

مفتتح وتمهيد تولى ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا الحملة العسكرية المصرية على بلاد الشام. وتم تعيين أحمد المونوكلي لقيادة الحصار على مدينة عكا، والذي دام ستة أشهر، وخلال هذه المقالة سنوضح سبب الحصار، وحكاية احتلال عكا. كان حصار عكا عام 1831 ، في أثناء الحرب المصرية – العثمانية ) 1831 – 1833 ( أو ما اتفق عليه المؤرخون ب “الحملة المصرية على بلاد الشام”، والتي انتهت باستيلاء إبراهيم باشا على المدينة، علما بأن الحكم المصري على بلاد الشام، قد استمر حتى العام 1840 جاء الحصار ضمن الحملة المصرية على بلاد الشام، حيث طمح محمد علي إلى ضم ولايات أخرى من بلاد الشام إلى مصر، ولم يكتم نيته هذه عن الحكومة التركية، وكانت أطماعه في الشام قديمة عرفت عنه منذ سنة 1811 م، ورأى محمد علي أنه يستطيع، في أسوأ الأحوال، امتلاك عكا على الأقل، وتأمين حدوده الشرقية، وإبعاد تهديدات الباب العالي عن مصر. بدأ الحصار يوم 26 تشرين الثاني – نوفمبر ) 1831 (، حيث استهل إبراهيم باشا محاصرة عكا، فاستبسلت حاميتها في الدفاع عنها، وانتصرت حامية بعض الأبراج على المصريين.

وفى هذه الأثناء أرسل محمد علي إلى عكا مهندسا قديرا تولى إدارة أعمال الحصار بكل دقة. وقد تمكن المصريون، بالرغم من شدة مقاومة الحامية، من فتح ثغرتين في الجهة الشرقية من السور، ثم سقطت عكا في 27 / 5/ 1832 بعد ستة أشهر من الحصار، وأسر عبد الله باشا، وأرسل إلى مصر، حيث قوبل بالحفاوة، وبلغ من ابتهاج محمد علي بالنصر أن أمر بالزينة ثلاثة أيام، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع سقطت دمشق.

أما الدولة العثمانية، فقد أرسلت جيشا قوامه عشرون ألفا بقيادة عثمان بك، بهدف دحر الجيش المصري، إلا أن الهزيمة كانت من نصيبه، كما أشرنا إلى ذلك سابقا. 41 تمت هزيمة الجيوش العثمانية التي اجتمعت عند حمص، هزيمة ساحقة ردتها إلى أقصى شمال سورية، ثم هزمت عند مضيق بيلان، وصار الشام كله بيد محمد علي الذي عادت جيوشه، فهزمت جيوش السلطان في واقعة قونية يوم 21 / 11 / 1832 ، وثارت بذلك أزمة دولية خطيرة انتهت بصلح كوتاهية ) 8/ 4 ثم 6/ 5/ 1832 ( الذي أعطى محمد علي ولاية فلسطين والشام كلها مع ولاية أضنة مدى الحياة.

خسرت الدولة العثمانية أكثر من ثلاثة آلاف قتيل وستة آلاف أسير في المعارك، منهم قائد الجيش ذاته الصدر الأعظم العثماني، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام محمد علي للاستيلاء على استنبول، وهنا طلب السلطان العثماني الدعم من الدولة الروسية، فانزعجت إنجلترا وفرنسا من سيطرة الأسطول الروسي على البحر المتوسط، وضغطت على محمد علي من جهة والسلطان العثماني من جهة أخرى من أجل الموافقة على الصلح.

وثائق تكشف مكنونات حصار عكا وسنتناول في مقالتنا هذه وصف الحصار واحتلال عكا، كما اوردته وثائق المحفوظات الملكية المصرية، التي قام المؤرخ أسد رستم بجمعها وتبويبها دون دراستها تفصيليا. وهذا يعني اننا سنعتمد على ما يخص الحصار من بين محفوظات عابدين – وهو الاسم الآخر للمحفوظات المصرية من تلك الفترة.

وفي واقع الأمر فإن مجموعة كبيرة من الوثائق في هذه المحفوظات تبين الخلل الذي ترافق مع عملية الاستعداد للحصار وخلال الحصار، مما ادى الى اطالته والشروع بعد الإخفاق الاول في تنظيم مجدد للجيوش المصرية بالاستعانة بأطراف اجنبية. المحفوظات الملكية المصرية تقودنا خطوة بخطوة تمهيدًا للحصار قام ابراهيم باشا بتجنيد العساكر الارناءوط في القدس، واصبحوا تحت طاعة الحكومة المصرية الجديدة.

وسعى مصطفى آغا بربر بأعيان طرابلس للضغط على هؤلاء العساكر للانضواء تحت راية الجيش المصري في حصار عكا على وجه الخصوص. ونتيجة للقصف الشديد الذي تعرضت له عكا فإن بعض الذخيرة قد نقص، فتوجه ابراهيم باشا إلى أبيه محمد علي طالبا منه ارسال قنابل من عيار 22 بأسرع ما يمكن، على أن يكون ارسالها بحرًا.

ولم يكتف ابراهيم باشا بطلبه هذا، بل اشار إلى الحاجة الماسة الى مادة البارود، 80 قنطارا كل يوم، وهذا بحد ذاته يوضح لنا شدة الحصار والقصف اليومي المتواصل وغير المتقطع على عكا.

وتكشف لنا هذه الوثائق كيفية تعامل عبد الله باشا والي عكا مع الحصار ورفضه التسليم. فتوجه اليه إبراهيم باشا طالبا منه القيام بذلك حقنا للدماء، إلا أن عبد الله باشا اعتبر ان محمد علي والده وان ابراهيم باشا شقيقه، ويرجو ان يخرج بطريقة غير استسلامية من بيته، واستمر في رفضه تسليم القلعة.

ويبدو ان الدولة العثمانية قد تلكأت في مواجهة الجيش المصري، إلا أن مفاوضات كانت 42 تجريها على الصعيد المحلي في بلاد الشام، وخصوصا مسألة مشاركة الامير بشير، الذي وفقا للوثائق، ادعى انه لم يتسلم بعد أي كتاب من الدولة، وهذا يعني ان هناك انتظارا حذرا لما ستؤول اليه الاحوال في عكا.

وفي وثيقة أخرى- وهي عبارة عن رسالة بعث بها إبراهيم باشا الى والده- أوضح له فيها انه بحاجة ايضًا لمواجهة الاسطول العثماني، وبالتالي يطلب منه ارسال 200- 300 رجل من سلاح المدفعية لتوزيعهم على بعض قلاع برّ الشام للقيام بمهام القصف والدّكّ. ولأنّ الحصار قد اشتدّ على عكا دون استسلامها، فإنّ نقصًا في المواد الغذائية قد ضرب المنطقة بما فيها الجيش المصري.

فأرسل ابراهيم باشا الى محمد علي باشا طالبًا منه مدّ جيشه بالقمح والعدس والشعير والفول والطحين والارز. وايضًا كرّر طلب مدّ جيشه بالبارود، مشيرًا الى احتياجه الى 300 برميل منه، وكذلك طلب مدافع اضافية لتشديد القصف على المدينة.

ويوضح في رسالته هذه صعوبة قيام الاسطول البحري العثماني بإنزال بري لمواجهة الجيش المصري في ظل ظروف فصل الشتاء الذي بدأ يضرب المنطقة.

ودخل ابراهيم باشا في مفاوضات مع عبد الله باشا ليسلم عكا بعد ان اصبحت صيدا المقر الرسمي للولاية بيده والامير بشير مناصرًا له، إلا أن عبد الله باشا تلكأ في الاستجابة مع كل الوعود بأمانه وضمه للقيادة المصرية. ولكن عكا لم تقع بعد بيد ابراهيم باشا وهذا مقلق له، فيأمر بإرسال خبر الى عبد الله باشا بأنّ الدولة (اي السلطة المركزية في استنبول) قد رفعت يدها عن عكا.

ويلجأ ابراهيم باشا الى استعمال تكتيك آخر في أثناء الحصار، وهو تلغيم السور لإحداث ثغرات في بعض أطرافه. وفي رسالة تسلمها عبد الله باشا من كبير موظفي الدولة يؤكد فيها وقوفها الى جانبه ورفضها ما قام به ابراهيم باشا، وتطالب الدولة من محمد علي باشا بسحب كل قواته وعساكره وسفنه والعودة بها الى مصر.

وفي رسالة تفصيلية يبين ابراهيم باشا لوالده أنه لا داعي للقلق من طرفه بمسألة استعدادات الدولة العثمانية لإرسال جيوش واساطيل لمحاربة المصريين في الشام، مشيرًا في الوقت ذاته الى ضرورة تزويد جيشه بعدد آخر من السفن استعدادًا للمواجهة.

ويحاول محمد علي باشا تخفيف التوتر الحاصل بينه وبين الباب العالي في استنبول، مؤكدًا أنّه لو عرف مسبقًا استحالة تطويع عكا لما كان قد دخل هذه الحرب، ويؤكد بشكل غير مباشر طاعته للسلطان. ومن الخطط الحربية في الميدان تنظيم هجوم على قلعة عكا من ناحية برج الباب واشعال الالغام وضرب المدافع لأجل ردم الخندق الذي يحيط بهذا البرج.

وفي رسالة أخرى الى محمد علي باشا يؤكد فيها قيامه بتحصين قلاع المدن الساحلية في لبنان وفلسطين لمواجهة اية محاولة اختراق. وجرى تركيز ابراهيم باشا على عملية طرد عثمان باشا المكلف من الدولة لمحاربة الجيش المصري بكل الطرائق والوسائل، ليتسنى له اضعاف محيط عكا، وبالتالي الى اختراقها 43 واقتحامها.

وأكبر أزمة واجهها الجيش المصري في حصاره لعكا هي قلة العساكر ونفاد سريع للذخيرة. لهذا تفيدنا الوثائق بكم هائل من المراسلات لغرض زيادة العدد والعدة، حتى من جزيرة كريد )أي كريت(. ومع مرور الزمن ازداد قلق القيادة المصرية الميدانية من صعوبة الحصار.

ومن بين ما أقلق هذه القيادة حرف المعارك الى مناطق أخرى، ما يضطر ابراهيم باشا الى تخفيف الحصار عن عكا. فجاءه اقتراح بإعادة تنظيم الحصار بقوة أقل لمواجهة خدع الجيش العثماني والعساكر المرافقة له من مدن الايالات في سوريا. وطيلة الوقت وبكل ما له علاقة بحصار عكا كان ابراهيم باشا يشير الى النقص في العدد والعتاد.

ومرة أخرى واجه الجيش المصري بالرغم من اعادة تنظيم صفوفه وفرقه فشلا في الحصار، إذ أنّ المدينة لم تستسلم. ويعزو ابراهيم باشا اسباب الفشل الى قلّة عدد الضباط الاكفاء المدربين على الفنون الحربية، بعكس جنوده الذين اظهروا شجاعة واقدامًا.

ويرى أنّه يجب الاعتماد على الجنود دون الضباط، وأن يجري الاسطول تدريبات مكثفة منعًا لاقتراب الاسطول العثماني من شواطئ عكا. وواجه الجيش المصري في ميناء عكا وصول بعض السفن الانجليزية، ويطالب القواد العسكريون من ابراهيم باشا تفتيشها.

وطبعًا هذا ليس بالأمر السهل مع دولة عظمى في ذلك الوقت، لأنّ مثل هذا الإجراء يمكن أن يجر الى مزيد من التدخل والاحتكاك. وبالرغم من كلّ هذا الحذر إلّ أنّ المركب الانجليزي قد دخل الميناء ووزع مناشير، وهناك اثنان من موجهيه وقعوا بيد الجيش المصري. وجرى استعداد لهجوم جديد على عكا من خلال تنظيم جيوش من ثلاث جهات وتسديد ضربة من البحر والبر معا.

وكما نحلل الوضع وفقا للوثائق المشار إليها أن خللا ما كان في خريطة تنظيم المعركة على عكا، لدرجة أنّ هناك مطلبًا بوضع خريطة جديدة قبل البدء بالهجوم الواسع. وتلا ذلك حصر اعداد الذخيرة في المستودعات لمعرفة الاحتياج والنقص، إلى جانب بيان احصائي آخر بمعرفة ما تم القاؤه من قنابل على عكا. ويبدو أنّ الدبلوماسية الدولية دخلت على خط الصراع، فبدأت بالتحرك بعد ان انجز الجيش المصري بعضا من عمليات اخماد الفتن والنزاعات في جبل الدروز وجبل لبنان وحمص وغيرها. بمعنى، أن الدول الغربية معنية بحل الصراع بعد سقوط عكا.

ونضيف على كل ذلك ان الجيش المصري قد استعان بمهندس فرنسي اسمه روميوس لإنجاز خريطة وخطة الحصار والهجوم على عكا. وهنا يبرز الصراع والتنافس الدولي بين بريطانيا وفرنسا على مناطق النفوذ في منطقة الشرق الاوسط، وخصوصا تلك الاقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني. والاستعدادات جارية على قدم وساق من الجيوش البرية والبحرية، فالأسطول المصري وصل الى ميناء عكا، ثم توجه الى الاسكندرية لجلب المزيد من المؤونة، والعودة لتسديد الضربة 44 على قلعة عكا بغية اسقاطها بيد الجيش المصري. وتم تنفيذ الهجوم والاستيلاء على الاسوار والمدافع والاطراف الداخلية للقلعة، وذلك في 27 ذي الحجة لعام 1247 ه، الموافق 28 ايار 1832 م.

وتم اسر عبد الله باشا وارساله الى مصر. ثم تابع الجيش المصري مسيره نحو دمشق بمرافقة الامير بشير الشهابي الذي شارك في انتصار الدخول إليها. مقابل ذلك، ومباشرة بعد سقوط عكا أعلن السلطان العثماني محمود الثاني ان محمد علي خائن، وحاول ارسال جيوشه الى بعض المناطق السورية لاستعادتها، إلا أنه لم يوفق في ذلك.

وهنا تيقظت الدول الاوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، فشرعت فرنسا بوجه خاص الى دفع حليفها محمد علي باشا الى التفاوض مع الباب العالي لتدارك اية محاولة من طرف محمد علي لإقامة امبراطورية له على أنقاض الدولة العثمانية المتهالكة.

خاتمة كانت فترة الحكم المصري عموما على بلاد الشام متميزة بمنح هذه البلاد قسطا من الاصلاحات وفق المنظومة التي اسسها محمد علي باشا في مصر، والمبنية على مبدأ “الاحتكار” وسيطرة قبضة الدولة على كل مفاتيح الحياة.

وهذا ما لم تكن هذه البلاد – أعني بلاد الشام – معتادة عليه. حيث أن الدولة العثمانية بالرغم من قبضتها الحديدية إلا أنها تبنت مبدأ اللامركزية في الحكم، ولو بمفاهيم ذلك الزمن بمنح الوالي صلاحيات واسعة، بحيث لا يلجأ المواطن الى الدولة في الآستانة، إلا عن طريقه. من جهة أخرى تعرضت عكا بوجه خاص الى حصار شديد امتد قرابة ستة شهور ذاق الاهالي فيها والمناطق المجاورة الشدة والقسوة.

إلا أن المدينة بقلعتها صمدت امام عمليات قصفها واختراقها، ولم تتمكن الجيوش المصرية من تحقيق خطتها التي رسمها المهندس الفرنسي روميوس الا بجهود كبيرة. كان لسقوط عكا وقع صعب على باقي المناطق في بلاد الشام، حيث سرعان ما وقعت الواحدة تلو الاخرى بيد الجيش المصري، وصولا الى توقيفه في كوتاهية في الاناضول والتوصل الى اتفاقية تحمل اسم هذا الموقع، يعترف بموجبها السلطان بحكم محمد علي على مصر وولايته على سوريا. لكن اللافت، أن تفاصيل الاستعدادات والتحضيرات للحصار كانت ترسل يوميا خطوة بخطوة الى محمد علي باشا، سواء من ابنه قائد الحملة، او من موظفيه ومعاونيه.

وتعكس لنا مجموعة الوثائق كيفية تنظيم الفرق المقاتلة، وانواع الاسلحة المستعملة على يدها، وطبيعة الحصار والصعوبات التي واجهها الجيش المصري.

هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى تبرز لنا الوثائق أشكال التدخل الدولي في شؤون الدولة العثمانية في غير صالح الدولة العثمانية في نهاية المطاف بعد الحاق ضعف تلو آخر بجسمها الاداري والمالي والعسكري. ونرى من هنا ان سياسات التفكيك أخذت تعمل بقوة وعمق في جسم هذه الدولة، لتصح تسميتها باسم “الرجل المريض”.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار