عكا… المجتمع الفرنجي في المدينه في عهد مملكة عكا الصليبية… 1291-1191 – 1187-1104

 

ماهر زهرة – مجلة الفنار

.

المجتمع: تميزت عكا بازدحامها السكاني ، اذ سكن في هذه المدينة نحو 40 – 60 الف نسمة، في حين لم تتجاوز مساحتها ال .. 400 دونم ) 1(، وكان سكانها خليطا من الأجناس، والقوميات، والأديان واللغات، الا انه من الممكن التمييز بين فئتين أساسيتين وهما : الوطنيين من مسلمين وسوريين) مسيحيين شرقيين (ويهود، والفرنجة على اختلاف أجناسهم. الوطنيون: شهد الوطنيون تناقصا في أعدادهم عقب المذابح التي كانت تصاحب استيلاء الفرنجة على المدينة وعمليات التهجير القسري، وعادة ما سكنوا المنطقة الواقعة تحت سيطرة الملك المباشرة في منطقة السوق الملكي او في ضاحية المدينة الشمالية) خارج الاسوار (والتي دعيت في ما بعد بحي مونت ميزارت.

كانوا دوما اقلية في المدينة ، وقد عمل غالبيتهم في الأعمال الحرة والطب والتجارة المحلية ، ومنح المسلمون جزءا من الجامع الكبير “جامع علي بن ابي طالب ” للعبادة بعد ان قام الفرنجة بتحويله الى كنيسة.

اما السوريون) المسيحيون الشرقيون( فلم يتساووا في اي يوم مع الفرنجة، الذّين نظروا اليهم نظرة استعلائية ، ولم يتردد رجال الدين الفرنجة في اظهار حقدهم على الشرقيين.

وقد جاء في اقوال الراهب الدومينيكاني الالماني بوركهارت: “صحيح انهم مسيحيون ، ولكنهم لا يصدقون اللاتين اطلاقا. اما اسقف عكا الفرنسي جاك دي فتري الذي كان يمقتهم اشد المقت فقد قال فيهم :”انهم يفضون بأسرار الصليبيين العسكرية الى المسلمين ، انهم غالبا ما يطلبون العون ضد المسيحيين من اعداء ديننا المسلمين ” .

وقد حولت الكنائس الشرقية الى كنائس غربية ومنعوا من الصلاة فيها. كما وحرمت الكنيسة على الفرنجة الزواج من الشرقيين ، كما ومنعهم بطريرك بيت المقدس دايمبرت من دخول كنيسة القيامة. وقد ذكر الحاج اليوناني فوكاس في اسفاره معاناة المسيحيين الشرقيين واضطهادهم من قبل الفرنجة . ) ومن المسيحيين الوطنيين من ربط مصيره بمصير المسلمين وحارب الى جانبهم( .اما اليهود فقد توافرت لهم من الأسباب القوية التي جعلتهم يؤثرون حكم المسلمين الذين أحسنوا معاملتهم .

.

• الفرنجة : وهم الشعب المستعمر على مختلف اجناسه وقومياته ، وكانت تركيبة مجتمع الفرنجة في عكا متعددة ومعقدة ومن الصعب تصنيفها، الا انه من الممكن التمييز بين خمس فئات اجتماعية، وهي: الطبقة الأرستقراطية : تألفت هذه الطبقة من كبار الفرسان والقادة العسكريين الذين حصلوا مقابل اشتراكهم في الحملات الصليبية على املاك وضياع واسعة . ومن أهم هذه العائلات الأرستقراطية عائلة ابيلين. وتميزت هذه الطبقة بالانقسامات والمخاصمات واتبعت الطبقة الأرستقراطية في عكا اساليب وانظمة عملها التي كانت متبعة في اوروبا متجاهلة بذلك الفرق الشاسع بين اوروبا ومملكة عكا ، اذ تدخلت في عكا في جميع الشؤون العسكرية والسياسية في ظل ضعف سلطة الملك ، وكان سعيها الاول في سبيل الحفاظ على مصالحها الخاصة ، وكي تحافظ على سياستها التسلطية سعت الى اضعاف سلطة الملك حتى بلغ بهم الأمر الى انتقاء رجال ضعفاء لترسيمهم على عرش المملكة كي يكونوا دمى في ايديهم ، ولم يتورعوا عن خيانة الصليب، والمملكة في سبيل مصالحهم الطبقية.

.

• البرجوازية : ومنها البرجوازية الكبيرة والتي شملت كبار التجار وأصحاب المتاجر والفنادق والأسواق ، وكذلك البرجوازية الصغيرة من حرفيين وتجار .وعلى الرغم من ثراء هذه الطبقة ، الا ان وضعها الاجتماعي كان دوما متذبذبا ولم يكن لها أي تأثير يذكر في الحياة السياسية .

.

• التركبوية : واعضاؤها في الأصل من جنود الفرنجة الفقراء الذين شاركوا في الحملات الصليبية، خاصة الحملة الأولى والثانية. ونظرا لفقدانهم شرف المولد والنسب فقد تزوجوا من المسيحيات الوطنيات ، ومنذ أواسط القرن الثاني عشر بدأ نسلهم يؤلف طبقة جديدة تشبعت بالاخلاق والعادات والتقاليد العربية، وعرفت هذه الطبقة بالبولان Poulai ،وكانت هذه الطبقة محتقرة من قبل الفرنجة خاصة رجال الدين ، واعتبروهم ذوي دم ملوث ونجس، حتى أن لفظ بولان اصبح مصطلحا للتحقير.

وقد ندد بهم رجال الدين ، وقال فيهم جاك دوفتري اسقف عكا: ” أنهم شكاكون غيورون على زوجاتهم ، واقاربهم يكادون لا يقتربون منهم ، ويمنعونهم من ارتياد الكنائس ويسمحون لهم بالخروج الى الحمامات ثلاث مرات اسبوعيا . ولم تعترف الكنيسة بزواجهم ، وكان البولان اكثر الفرنجة تأثرا بالحضارة الاسلامية ،وقد اعجب بهم المؤرخ الأمير اسامة بن منقذ وفضلهم على غيرهم من الفرنجة. .

• رجال الدين : شكلت هذه الطبقة عصب الحياة في المملكة الصليبية ، وقد استمدت قوتها من مكانتها الروحية والاقتصادية ، وتميزت هذه الطبقة في عكا في الحقبة الصليبية الثانية بالنزاعات الداخلية والخلافات، حتى انهم لم يتورعوا عن تصفية بعضهم بالسيف أو بدس السم .

.

• ا الكومونات : وهي الجاليات التجارية الأيطالية التي انتمت الى مدن الأم في إيطاليا، وكان انتماؤهم فقط للمال والتجارة ، ولم تعن لهم الحملات الصليبية أي شعور ديني .

.

الأخلاق:

افتقد المجتمع الفرنجي القيم والأخلاق الحميدة التي كان لها الشأن الأسمى في المجتمع العربي والاسلامي ، وقد تجلى الانحلال الخلقي في المجالات الحياتية كافة ، حتى أثارت استغراب مؤرخي تلك الحقبة من المسلمين والمسيحيين على السواء

واثارت وحشية وصلف الفرنجة حفيظة الراهب روبرت ، وقد جاء في وصفه لمذبحة عكا : كان قومنا الصليبيون يجوبون كاللبؤات التي خطفت صغارها الشوارع ، والميادين ،وسطوح البيوت ، ليرووا غليلهم من التقتيل ، وكانوا يبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها الذهب ، فيا للشره!! وكانوا يدوسون جثث قتلى تلك الجماعات الكبرى التي لم يرض أحد من أفرادها بالنصرانية دينا .

كما وعبر عن هذه الوحشية الشاعر الفارسي سعدي بقوله : ” لم يكن أولئك الوحوش من البشر”. اما الكاهن انكتيل فقد قال فيهم : ” قلما كان صليبي يسير بوحي ديني ، فلم يترك اولئك الصليبيون جرائم وحشية ولا ضربا من ضروب السلب والنهب والفظائع المزرية الا واقترفوها”. اما الامير المسلم اسامة بن منقذ، فقد قال في هؤلاء الفرسان الفرنجة : “انهم بهائم ، امتازوا بصفة الشجاعة والقتل لا غير”.

الا ان الزمان قد فعل فعلته ونجحت شمس الشرق بحضارتها العربية الاسلامية في ترويض الشخصية الفرنجية، ولاحظ مؤرخو تلك الحقبة التحول الحاصل ، وكان اجمل تعبير عن هذا التحول ما جاء في اقوال المؤرخ الصليبي فوشيه دي شارتر : « ها نحن اولا قد تحولنا الى شرقيين … فمن كان منا ايطاليا او فرنسيا بالأمس أصبح اليوم في وطنه الجديد جليليا او فلسطينيا … ونستعمل من آن لآخر اللغات المحلية المختلفة ، وقد شد التضامن ما بين اكثر الاجناس هنا تباعدا ، حتى صدقت فينا آية التوراة القائلة : ” سيأكل الأسد والنمر في معلف واحد ” ، ويكاد الواحد منا يكون قد تبلد ، والمهاجر قد تمثل بالقيم “.

اما الامير اسامة بن منقذ فيشير الى هذا التحول بقوله: وكل من هو من الصليبيين قريب العهد بالبلاد الفرنجية، اجفى اخلاقا من الذين قد تبلدوا وعاشروا المسلمين .

ومنذ أواسط القرن الثالث عشر طرأ تحول في تركيبة المجتمع العكي بسبب النوعية المتميزة للمهاجرين الجدد الذين أقاموا في عكا ، وكان لهؤلاء المهاجرين الأثر الكبير في اخلاقيات المجتمع العكي.

اذ منذ اواسط القرن الثالث عشر بدأت الدول الأوروبية، رغبة منها بمد المملكة الصليبية بقوى بشرية، ومن جهة اخرى للتخلص من الاشرار في بلادهم( بنفي المجرمين والمحكوم عليهم بالإعدام الى عكا. وذكر المؤرخ الألماني بوركهارت الذي زار عكا عام 1182 م: ) القاتل ، الناهب ، اللص، الحانث في يمينه، يمضي الى الشرق بحجة غسل الجريمة، ولكنهم كانوا لا يغيرون سوى السماء التي يعيشون تحتها، لا الأخلاق والعادات،

وبعد انفاق أموالهم يشرعون في اقتراف افعال اكثر شرا مما كانوا يفعلونه من قبل(. وذكر جاك دي فيتري اسقف عكا : « هؤلاء الحجاج ، بينهم اللصوص والقتلة والقراصنة والسكارى والمقامرون ، والرهبان الدعار والراهبات العواهر الفارون والضالات .. هذه الامدادات التي كانت ترسلها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ، الى مملكة الصليبيين” .

.

نكث العهد

لم يحترم الفرنجة يوما اتفاقية او عهدا ، حتى انه من الممكن الجزم بان الفرنجة لم يحترموا اية اتفاقية على مدى تاريخ المملكة الصليبية ، وكان ذلك نمطا حياتيا لا تكتيكا سياسيا .

ففي عام 1104 م ، وبعد أن منح الملك بلودوين الاول سكان عكا الأمان اذا ما سلموه المدينة، قام الفرنجة بمذبحة رهيبة فور تسليم المدينة ، أسفرت عن قتل نحو 4000 عكي. ومرة اخرى قام ريتشارد قلب الاسد )بعد ان منح سكان عكا الأمان فيما لو سلموه المدينة ( بنقض الاتفاق ، وقام بارتكاب مذبحة رهيبة في أربعة آلاف اسير مسلم وعلى مرأى من عيون صلاح الدين والمسلمين .

وفي معركة حطين نجح الجيش الصلاحي في اسر الملك الصليبي غاي لوزجنان ، الا ان صلاح الدين ، وعن طيب خاطر ، اطلق سراحه بعد ان اقسم له جاي بالا يعود الى مقاتلته ، الا ان غاي لم يحفظ هذا الجميل ، وفور تحريره قام بجمع اشلاء جيشه، ثم توجه نحو عكا لمحاربة صلاح الدين، وقد احتار المسلمون في كيفية التعامل مع الصليبيين لحفظ الاتفاقيات المعقودة معهم .

وفي عهد شجرة الدر في مصر قام الأمراء المصريون بوضع قسم للملك لويس التاسع في اثناء اسره لحفظ الاتفاقية، وكان نصه ) انه اذا نكث عهده فانه يعتبر ملعونا كمسيحي انكر الله والمعمودية والخلاص والايمان وان يبصق على الصليب وان يطأه بقدميه تحقيرا للإله ” . وحتى هذا القسم لم ينفع ، اذ فور اطلاق سراحه توجه نحو عكا، وبدأ يتحصن لمواصلة برنامجه الصليبي .

ويتحدث الأمير اسامة بن منقذ في كتابه ) الاعتبار ( عن غدر الفرنجة في عكا، وعدم اعتباره للأمان الذي اعطوه لأسرة اسامة المستقدمة من مصر ، على الرغم من أن نور الدين ذاته هو الذي كان قد حصل.

.

الدعارة

لعبت الدعارة ودور الفسق دورا مهما في المجتمع العكي ، واقترن ذكر عكا في الشرق والغرب بالعهر والعاهرات والمواخير، حتى أن هجرة الزانيات من دول أوروبا الى عكا بدا امرا طبيعيا ، فكانت الزانية مستعدة لدفع المبالغ الطائلة في سبيل ايجاد شقة لها في عكا، لما كانت تجارتها مربحة في هذه المدينة.

وقد ذكر مطران عكا جاك دوفتري: “كانت عكا مكتظة ببنات الهوى اللواتي يجنين الأرباح بما يلقينه من حظوظ عند الرجال ، رجال الدين والدنيا على السواء ، ترى الرجال فيها يغتالون نساءهم والزوجات يسممن رجالهن في سبيل عشاقهن ،فلا غرابة أذا أن تختص عكا ببيع السموم والعقاقير المسمومة”.

ويذكر في موضع آخر: ” تعج المدينة )عكا ( ببيوت الدعارة ، لأن المومسات يدفعن اعلى الايجارات ، ولكن القساوسة وحتى الرهبان يقومون بتأجير منازلهم في جميع انحاء المدينة للعاهرات .

وذكر السائح الانجليزي ولتر Walter Of Guisborough ان العاهرات في عكا بلغن نحو 14 الف عاهرة. )وقد يكون هذا العدد مبالغا فيه، الا انه يعبر عن مدى كثرة العاهرات في المدينة.

وذكر مجير الدين الحنبلي في كتابه ” الانس الجليل: ” أنه في اثناء الحملة الصليبية الثالثة وصل عكا مركب فيه ثلاثمائة امرأة فرنجية من النساء الحسان، اجتمعن لإسعاد العزبان، وسبلن انفسهن وفروجهن للعزبان، ورأين أن هذه قربة ما، ما افضل منها ، وعند الفرنج ان العزباء اذا مكنت منها الاعزب لا حرج عليها” .

« وكانت بعض النساء الذاهبات الى الحج يكسبن نفقة الطريق ، كما يقول الأسقف بنيفاس ببيع اجسادهن في المدن القائمة في طريقهن ” ، وكان كل جيش يتعقبه جيش آخر من العاهرات لا يقل خطرا عن جيش اعدائه”.

ويحدثنا البرت من ايكس « :AIX ان الصليبيين كان بين صفوفهم جمع حاشد من النساء في ثياب الرجال ، يسافرن معهم دون ان يميزن عنهم، ويغتنمن الفرصة التي تتاح لهن مع الرجال”.

وفي اعقاب احتلال الصليبيين عكا عام 1191 م استسلم الفرسان للخمول والترف وابوا أن يغادروا المدينة المليئة بأسباب النعيم واجمل الغانيات لمواصلة البرنامج الصليبي واحتلال القدس.

واطلق الكثير منهم لشهواتهم العنان . ومما زاد الطين بلة ان ريتشارد قلب الأسد أمر الا يصطحب الجيش من النساء الا الغسالات ممن لا يغرين الجند بالإثم، الأمر الذي آثار رفض الجيش.

وعندما توجه جيش ريتشارد من عكا الى يافا، لحقت النساء الجيش بالمراكب والزوارق، حتى صاح مؤرخ حملة ريتشارد الشاعر الانجليزي امبرواز : “رحماك، اللهم، ابمثل هذا السلاح يسترد ميراث الرب ؟!”.

ثم بعد احتلال يافا، تهرب جيش الفرنجة من اعمال الترميم فيها ، وبدأوا يتسللون من الجيش ليعودوا الى عكا من اجل قضاء الوقت في الفسق والفجور مع الصليبيات الفاسقات في عكا، حتى ان ريتشارد اضطر اخيرا الى العودة الى عكا لينتزع الجنود من المواخير والخمارات واعادتهم الى يافا .

كما ووجه امبرواز نقدا لاذعا للصليبيين الفرنسيين جنود الحملة الثالثة لتصرفاتهم المخزية ، بقوله : «كانوا يمضون لياليهم بالرقص .. وبعد معاقرتهم بنت الحانة حتى الصبح كانوا يغادرون الى بيت الدعارة معربدين محترفين الاثم بالتكسير والتخريب.

وذكر جوانفيل ، مؤرخ حملة الملك لويس بأنه كان ينام في عكا على مدخل خيمته منعا للشبهات التي قد تحوم حول اتصاله بالنساء ، في حين قام الاشراف الذين رافقوا الملك لويس: “بإقامة مواخيرهم حول خيمة الملك”.

وذكر ان القاصد البابوي قال له: “لا يعلم احد مثلي المعاصي والآثام التي يرتكبها الفرنجة في عكا ، ولذلك فان المولى سوف ينتقم منهم حتى تغسل المدينة بدمائهم وحينئذ سوف يأتي شعب آخر للإقامة فيها “.

وعاد اللواط الى الظهور في اثناء الحروب الصليبية، واتهم الملك فيليب رهبان المعبد ) الداوية ( بانتشار اللواط بينهم.

ومن الجدير ذكره ان القانون الفرنجي قد وفر للعاهرة كل الحماية وفرض على الرجل تنفيذ جميع التزاماته معها مقابل الحب ، كما واقامت الكنيسة في عكا ديرا خاصا للتائبات من الزانيات وسمي بدير القديسة مارية المجدلية .

.

المرأة

المرأة لعبت المرأة دورا سلبيا في المجتمع الصليبي ، حتى ان القديس برنارد Bernard يعزو اخفاق الحملة الصليبية الى فسق ومجون النساء وانه صحبت ” الينور الاكتانية “زوجها الملك الفرنسي لويس السابع في حملته الصليبية ، وقد تقدمت الجيش ومن ورائها الشعراء والمتغزلون.

وعندما دخلت عكا سمحت لنفسها ولوصيفتها بمغامرة الحب، وأشيع أنها عشقت عبدا مسلما في عكا ، الأمر الذي أثار حفيظة القديس برنارد الذي طاف اوروبا ليشهر بنزواتها.

وذكر الفارس لاتور لاندري Latour Landry من انتشار الفسق بين ابناء طبقة الاشراف ، فيحدثنا عن ملكتين: “استمتعتا ببهجتهن الآثمة وبلذتهن داخل الكنيسة في اثناء الصلاة في يوم خميس الصعود بعد الصيام”. وذاع صيت البطريرك هرقل في عكا لسوء خلقه، فقد عشق باشيا دي بيفيري، وهي سيدة عكية جميلة ومتزوجة .

وذكر وليم الصوري اسقف صور ان النساء يدبرن المكائد بالاشتراك مع رجال البلاط في سبيل التحكم في شؤون المملكة. ولخص لنا غروساه حالة المملكة في عهد بلودوين الرابع بقوله : « بلاط ملكي يبشر بالزوال ومرد ذلك تسلط النساء، وتنفذ رجال الحاشية الانذال الملكة سيبيل تورث العرش، الرفيق يشاركها الحكم رغبة منها بجمال وجهه مع قبح نفسه”.

اما اختها الملكة ايزابيلا فآثرت الزواج برجل ارعن ساقط )دي تورن( . ولم تكن الوالدة الملكة أنياس ) Agnes ( بأقل سوءا، اذ انها راحت تشارك الحاشية في الكيد ارضاء لشهوة الحكم عندها، حتى ولو أدى ذلك بالمملكة إلى الحضيض .

اما بوهمند الثالث الذي ارتمى في أحضان خليلته سيليد التي كانت تتجسس عليه لصالح صلاح الدين ، وعندما اكتشف رجال الدين سرها و ارادوا معاقبتها، قام بوهمند باضطهادهم . كما واظهر وليم الصوري مقته لتصرفات الملك بلودوين الثالث :” انه لطخ روابط الآخرين الزوجية في سعيه وراء الرغبات الجسدية” .

اما الملكة ثيودورا زوجة الملك بلودوين الثالث ، فلم تتورع عن ممارسة الزنا والفسق مع عشيقها اندرونيكوس في قصرها القائم في عكا، مما أثار حفيظة سكان المدينة، ولم يكن امامها سوى الفرار مع عشيقها والتنازل عن ملكها لمدينة عكا .

.

الحماّمات

لم تكن النظافة في العصور الوسطى من الإيمان ، فقد نددت المسيحية الأولى بالحمامات واعتبرتها بؤرا للفساد والفسق، وكان الاستحمام لدى شعوب الفرنجة أمرا نادرا، واذا تم فكانوا يستحمون بالمياه الباردة ، حتى ان احد مؤرخي القرن التاسع عشر وصف شعوب اوروبا في القرون الوسطى بقوله : “مجتمع نسي ان يستحم طيلة الف سنة”.

ومع تأسيس المملكة الصليبية كان اقبال الفرنجة على الحمامات واسعا ، وفي عكا سعت كل جالية الى اقامة حمام خاص في حيها ، وكانت الجالية الجنوية أولى الجاليات التي حصلت على حق امتلاك حمام في عكا في عام 1104 م .

وافرط الفرنجة في التردد على الحمامات، وقضوا فيها ساعات النهار الطويلة ، حتى أن جاك دي فيتري اسقف عكا قد احتج على ذلك ، خاصة على خروج الراهبات من الأديرة والتوجه الى الحمامات.

وندد برنارد الزاهد ) بالبولان- احفاد المسيحيين الشرقيين ( الذين يمنعون نساءهم من ارتياد الكنائس، ويسمحون لهن بالتردد على حمامات المدينة ثلاث مرات أسبوعيا ، في حين فخر بفرسان الداوية الذين تمتعوا بعطفه ، اذ انهم لا يستحمون اطلاقا .

وقد اقيمت الحمامات وفق الطراز الاسلامي الشرقي ، اذ كان الحمام متعدد الأهداف والاقسام ، ففيه قسم للبخار وقسم للمساج وقسم للحلاقة وقسم للاستحمام وقسم للسمر والتسلية والاستراحة .

وقد ذكر الأمير المسلم اسامة بن منقذ ان الفرنجة دخلوا الحمامات بلا ملابس مع النساء ، في حين غطى المسلمون عوراتهم . آن انشاء حمام في مدينة معمورة مثل عكا ليس بالأمر السهل ، اذ أن ذلك يتطلب تقنية خاصة، اضافة الى توفير مصادر لجلب الماء ومصارف لتصريفه ، لذلك وعلى الأرجح فإن الفرنجة قد جددوا الحمامات الاسلامية القائمة في عكا والتي اعتمدت اساسا على مياه المطر ومياه الآبار ، واذا ما اقيمت حمامات جديدة في المدينة ، فعلى الأرجح انها اقيمت في القرن الثالث عشر .

.

حفلات اللهو والترفيه

حذا الفرنجة حذو الشرقيين في حفلاتهم وأعيادهم، واتخذوا الجوقات في مجالس الشراب ، واستمعوا الى المعزوفات على الآلات الشرقية من ارغن ومزمار وعود وقيثارة ، واتخذوا المغنيات والراقصات والمهرجين.

وكانت عكا المركز الأول للاحتفالات الملكية الرسمية ، وقد ذكر مؤرخو تلك الحقبة الحفلات الضخمة التي اقيمت في عكا في حفل زواج الملك بلودوين الثاني على كونتيسة صقلية ادلد ، وحفل زواج الكونت أنجو من الملكة مليسند ، وحفل استقبال الملك فولك لمعين الدين انار حاكم دمشق سنة ۱۱۳۹ م، وحفل زواج الملك بلودوين الثالث من الأميرة البيزنطية ثيودورا ، وحفل الملكة ايزابيلا من الملك فردريك الثاني.

وكانت آخر الحفلات واعظمها حفل تتويج الملك شارل انجو آخر ملوك المملكة الصليبية ، وقد اسهب المؤرخون في وصف هذا الحفل ، اذ اعتبروه اضخم الاحتفالات في تاريخ المملكة الصليبية ، وقد امتدت هذه الحفلات على مدار اسبوع كامل عرضت خلالها العروض المسرحية ،ومنها عرض للمسرحية ” الطاولة المستديرة “المستوحاة من الكتاب المقدس ، وقد اقيمت على شاطئ البحر وعلى ضفاف نهر النعامين مسابقات الفروسية. وامضى الفرنجة اوقات فراغهم باللهو، وكان الشطرنج لعبة الملوك المفضلة ، ولكن لعبة النرد كانت الأكثر شيوعا، وكان الواحد منهم يقامر بثروته وحياته ونسائه .

وكانت الكنيسة قد حرمت لعب النرد والورق، وكان الشراب حتى الثمالة جزءا لا يتجزأ من التسلية، كما كانت حانات كثيرة وبعض المنازل تحتفظ بعدد من المومسات، في حين كانت الدعارة الأكثر شيوعا في عكا وكانت مكلفة للغاية. واعتبر سهل عكا ومنطقة نهر النعامين مكانا مفضلا للرياضة خاصة سباق الخيل والرماية ولعبة الصولجان )شبيهة بلعبة الغولف(، كما واعتبر الصيد اهم ضروب الرياضة، حتى أنه اعتبر رياضة ملوكية عمد اليها الملوك والنبلاء وكبار الفرسان.

وقد أخذ الفرنجة عن العرب الصيد بالباز والصقور والكلاب السلوقية، وكان من ضحايا هذه الرياضة الملك فولك الذي لقي مصرعه في اثناء مطاردة الأرانب في سهل عكا بعد أن سقط من على جواده.

وذكر لنا أسامة بن منقذ الصيد بالباز في سهل عكا، كما وذكر انه شاهد في عكا مسابقة عدو للعجائز وكان الهدف منها التندر، كما وذكر لعب الورق والنرد والتمثيل في ساحات عكا. اما وليم الصوري فقد ندد بالملك بلودوين الثالث: “لانغماسه في أعمال سيئة وفي العاب الحظ والنرد الخبيثة مما لم يكن لائقا بالجلالة الملكية”.

اما جوانفيل مؤرخ حملة الملك لويس التاسع، فقد ندد ببارونات عكا الذين أمضوا الوقت في اللهو والمقامرة، مما دفع الملك لويس في لحظة غضب الى قذف طاولة النرد والمال في البحر.

اللباس والزينة والحلي في البداية سعى الفرنجة الى الحفاظ على زيهم الوطني، الا أن رقي الزي الشرقي ومناخ الشرق الحار جعلهم يقلدون الزي الشرقي، فاستبدل الفارس الفرنجي اللباس الخشن وارتدى الألبسة الشرقية الزاهية والناعمة، واتخذ لنفسه العمامة والبرنس، وفوق درعه ارتدى سترة من الكتان لوقاية زردات الدرع الحديدية من حرارة الشمس، وجعل على خوذته كوفية على النحو المتبع في الشرق ) لوقاية الخوذة الحديدية من حرارة الشمس( .

ووجه الملك هنري اوف شامباين ملك عكا الشكر لصلاح الدين على الهدية التي ارسلها اليه، وكانت عبارة عن عمامة، واعلن ان مواطنيه يقدرون هذه الاشياء وسوف يحرص دائما على ارتدائها.

اما النبلاء فقد احبوا الألوان الزاهية المذهبة كالنساء، وعادة ما وضعوا حزاما مزدوجا فوق القميص، وارتدوا الجرابات الطويلة والأحذية، وعلى الرأس وضعوا الشرابة، كما ووضعوا المعطف الطويل على الأكتاف، اما الشعر فقد كان معطرا بالعطور العربية.

وتقلد الفرسان والنبلاء خاتما في أصبعهم نقش عليه توقيعهم الخاص، واستعمل هذا الختم للتوقيع على المعاملات الرسمية”. أما السيدات فلبسن الزي الشرقي التقليدي من قميص طويل وسترة قصيرة أو رداء مطرز بخيوط مذهبة، واذا خرجن من البيوت ارتدين الحجاب والجلباب.

وحذت زوجات التجار حذو سيدات الطبقة الأرستقراطية، اذ تمتعن بزي جميل فاخر، حتى بدا البذخ والترف غريبا عن الحاج الزائر، في حين كان أمرا طبيعيا على الزائر المسلم واتخذت المرأة زينتها من المجوهرات الدمشقية والقاهرية، ومن المساحيق والخضاب والحناء، واجتذبتها المرآة الزجاجية بعد ان كانت تتمارى في اوروبا بالأواني المعدنية.

.

الأطعمة والشراب

اخذ الفرنجة يقلدون الشرق في اطعمتهم، اذ اخذوا يصنعون الفطائر والحلوى المحشوة بالتمور، وادخلوا الى مطابخهم الأطياب والتوابل ، حتى ان منهم من امتنع عن اكل الخنزير، واذا كانت الجعة والنبيذ في اوروبا يشربان بدلا من الماء حتى أن مصطلح ) اشرب ماء ( لم يكن دارجا في اوروبا ، فقد بدا الفرنجة يقلدون المسلمين واخذوا يصنعون المشروبات المعطرة والمثلجة والمحلاة.

وكان ريتشارد قلب الاسد ) العليل ( في اثناء حصاره لعكا قد طلب من صلاح الدين ان يرسل له الفاكهة والمثلجات ، فاستجاب صلاح الدين لطلبه وذكر جاك ديفتري اسقف عكا انهم اصبحوا يحضرون الى عكا الثلج من جبال لبنان لصناعة المثلجات، واكثر الفرنجة من اكل اللحوم ، مما ادى الى انتشار الأمراض المعوية ، الا ان وجبة السمك كانت دوما الوجبة المفضلة ، ويذكر أن الملك املرايك قد توفي نتيجة اسرافه في اكله لوجبة سمك .

 

 

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار