الليبرالية ونظرتها التفاؤلية للطبيعة البشرية… بقلم : الدكتور منير توما

الليبرالية ونظرتها التفاؤلية للطبيعة البشرية

بقلم : الدكتور منير توما

                                                                                  كفرياسيف

إنَّ الليبرالية ، في تجسداتها الكلاسيكية والحديثة بكليهما ، قد تمركزت بصورة ثابتة على فكرة وحيده ، وإن كانت معقدّة ومركّبة : أهمية الأفراد كعوامل عقلانية ومدافعين عن حريتهم وحرياتهم ضد إساءات استعمال القوة . وفي سياق السعي لتحقيق هذه الغاية ، على أية حال ، فإنَّ الليبراليين قد قاموا بتأدية تراجع في اختيارهم للوسائل . في البداية ، فإنَّ شكوك الليبرالية حول قدرة الدولة لاستخدام قواها بمسؤولية أدّت إلى الدعوة الى نطاق حكومة تكون محدودة بشكل حازم ، خصوصًا في مجال التجارة . لاحقًا ، وعندما أصبح واضحًا أنَّ النشاط الإقتصادي غير المُقيّد قد أنتج عدم مساواة في توزيع الثروة والذي كان ليس أقل تهديدًا للحريات المدنيّة ، فإنَّ الليبراليين أصبحوا أكثر تدخليين ، يتطلعون الى توسيع الدولة وتسخير قوتها لاصلاح عدم المساواة هذهِ . وقد كان التبني من قِبَل المحافظين للوسائل (ولكن ليس الغاية) ، والتي كان قد اعتنقها في وقت مبكر الليبراليون الكلاسيكيون بما في ذلك التجارة الحرة والتدخّل الأدنى للدولة (في الولايات المتحدة) . وفي سياق الحديث عن الليبرالية نأتي الى تناول البحث في الليبرالية الكلاسيكية حيث أنَّ ظهور الليبرالية كعقيدة سياسية يتم النظر إليها كرد فعلٍ لأهوال الصراعات الدينية التي وصلت الى ذروتها في حرب الثلاثين سنة التي اندلعت في أوروبا خلال النصف الأوّل من القرن السابع عشر . إنَّ الصدمة من الاضطرابات الاجتماعية والمعاناة الانسانية التي كان سببها عقود من القتال الديني والديناميكي قد جعلت الفلاسفة الانجليز توماس هوبس وجون لوك يبدآن في التكهن على أساس تبرير الحكومة . كلا الفيلسوفين وافقا على أنّ القوة السيادية كان مُبَرّرًا لها فقط بواسطة موافقة المحكومين ، كما هو معبّرٌ عنه في عقد اجتماعي نظري بين الحاكم والمحكوم ، وكذلك أنَّ حرية الأخير يجب أن لا تكون محدودة ومقيّدة بدون سبب وبدون موافقة . إنَّ عَمَلَيْ جون لوك اللذين يحملان عنوان «معاهدتين للحكومة» صدر ونُشِر عام 1690 ، فقط بعد سنتين من الثورة المجيدة التي أَسّست لملك مقيّد دستوريًا على العرش الانجليزي ؛ إنَّ هذين العملين قد زَوّدا الكثير من الوحي والالهام للاضطرابات التحويلية الكبرى للقرن القادم التالي : الثورتين الاميركية والفرنسية . في بوتقة احداث صنع الحقبة ، فإنَّ الإحساس بأهمية الفردية الانسانية قد تمَّ تشكيله وصوغه كما لم يحدث من قبل . وقد بزغ الآن منذ قرون كان فيها الخنوع للملك ، للسيّد اللورد أو الكاهن بأن أصبح الفرد متحرّرًا من قبضة العادة والسلطة القديمة . إنَّ الإصرار على تحديد دور الدولة والإيمان في عقلانية الفرد قد ارتبط لانتاج أحدى أهم المزايا لليبرالية الكلاسيكية : ارتباطها بالرأسمالية والتجارة الحرّة . لقد تمَّ وضع الأساس المنطقي وراء هذا الارتباط بشكل رئيسي بواسطة الاقتصادي الإسكتلندي آدم سميث في عملهِ الذي يحمل عنوان «ثروة الأمم» (1776) . لقد عارض سميث تدخُل الحكومة ، مفترضًا أنّ طاقات الفرد الذي يعمل في سوق حرّة في بحثٍ عقلاني عن مصلحته الخاصة سوف يميل ويتجه حتميًا الى الصالح العام ، وذلك لأنَّ الحقيقة الدامغة في خدمة نفسه في اقتصادٍ تبادلي تتطلب أن يخدم أيضًا الآخرين . إنّ نظام فيه يكون المشترون والبائعون يعملون ويتصرفون بحريّة وتنافسية سوف ، كما يفترض سميث ، يكون ذاتي التنظيم وبذلك يكون فعالًا بقدر الإمكان ومعدّلًا على النحو الأمثل لانتاج الثروة للجميع .

إنَّ الليبرالية الكلاسيكية قد وصلت الى أعلى نقطة لها في مسار القرن التاسع عشر ، عندما قام الفيلسوفان النفعيان الكبيران جيرمي بنتام وجون ستيوارت ميل بتطبيق الدروس التي تعلماها من سوق الاقتصاد الحرّ الخاص بسميث – وخاصةً دور الاختيار الحر والمصلحة الذاتية المستنيرة – وذلك على نطاق أوسع في المجال السياسي . لقد طوّرا نظامًا مُفَصّلًا لحقوق الفرد والذي ما زال يقع في صُلب الفكر الليبرالي الحديث . وبنهاية القرن ، فإنَّ الليبرالية قد غيّرت المناخ السياسي لأوروبا ، حيث أنَّ حكومة مقيّدة ودستورية الآن الى حدٍ كبير تسيطر والتصنيع والتجارة الحرة تُولِّد ثروة عظيمة .

أمّا فيما يتعلق بالليبرالية الحديثة فإنه يمكن القول إنّ آدم سميث نفسه قد توقّع أنّ المشاريع الحرّة غير المقيدة يمكن أن تؤدي الى تجاوزات ، بينما جون ستيورت ميل قد افترض جدلًا أنَّ عدم المساواة الاقتصادية المتولدة عن طريق عملية الرأسمالية سوف تتطلب شكلًا من أشكال الاعتدال . لقد كان دائمًا انتقاد مشترك لليبراليين بأنّه لطالما كان هذا تعلقهم بالحد من السلطة العامة قد جعلهم يتعامون عن تأثيرات القوة الخاصة ، وبنهاية القرن التاسع عشر ، أصبح من الواضح أنّ حيوات الناس العاديين قد تمَّ دوسها من قبل الصناعيين والممّولين الذين مارسوا قوة اقتصادية وسياسية واسعة . لقد كانت معارضة لهذا الإستبداد الجديد لحكم الأثرياء الرجعيين بحيث أنّ جيلًا من الليبراليين الجدد قد ظهروا (“اجتماعيا” أو “رفاهًا”) . لقد كانوا مستعدين أنّ يوسّعوا قوة الحكومة لاصلاح عدم المساواة الاقتصادية ، من خلال تنظيم الصناعة وتقديم اصلاحات اقتصادية ومالية . ومن بين الإنجازات الملحوظة للفكر الليبرالي الجديد كان الرفاهية الكاسحة ومبادرات الأمن الاجتماعي التي قدمتها صفقة روزفلت الجديدة في الثلاثينيات . إنَّ التوجه الليبرالي الحديث قد ازدهر في عقود النمو والانتعاش بعد الحرب العالمية الثانية . ومن السبعينيات على أية حال ، فإنَّ الثقة في التقدم المستمر تعثرت ثم تحطمت مع الركود الاقتصادي ، التضخم الكبير والدين القومي المتنامي الذي استحكم . وفي اعقاب هذه المشاكل الإقتصادية ، فإن «اليمين الجديد» وصل الى السلطة في الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا . وفي الحرب الكلامية التي شنّها اليمين الجديد ، تمَّ الاستهزاء بالليبرالية بلا رحمة باعتبارها دولة كبيرة غير خاضعة للرقابة والسيطرة ، ودولة ضرائب وانفاق والجامبو الضخم الصحيح سياسيًا بحيث أنّ كلمة «ليبرالي» أصبحت ، في سياسة الولايات المتحدة، وعمليًا أصبح ذلك مصطلحًا للإساءة . إنّ مثل هذا الوضع في دولة ليبرالية كاميركا كما توصف عادةً ، لهو أمر شاذ وغريب . ومع ذلك فإنَّ شعلة الليبرالية المستنيرة والتقدمية ما زالت تتوهج ، وذلك كما قال الرئيس الأميركي جون كنيدي أثناء حملة ترشحه للرئاسة قبل أكثر من نصف قرن : «إذا كانوا يعنون بكلمة «ليبرالي» بأنه إنسان يتطلع وينظر قُدمًا الى الأمام ، وليس للخلف ، وكذلك كونه إنسانًا يرحب بالأفكار دون ردود فعل جامدة ، بالاضافة الى كونه أيضًا إنسانًا يهتم برفاهية الناس … فبذلك أنا فخور أن أقول بأني «ليبرالي» .

وخلاصة القول أنَّ الليبرالية مصطلح اجنبي معرّب من الانجليزية (Liberalism) ، وتعني «التحرّرية» . والليبرالية مذهب فكري يتمحور حول الحرية الفكرية ووجوب احترام استقلال الفرد ، ويرى أن وظيفة الدولة الأساسية هي حماية حرية المواطن وتفكيره ، وحرية التعبير ، والحرية الشخصية ، والملكية الخاصة . ولهذا فإنَّ الليبرالية تسعى الى تقليل دور السلطة ، ووضع القيود على الحكومة وابعادها عن السوق ، علاوةً على توسيع الحريات المدنية .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007. يرجى ارسال ملاحظات لـ akkanet.net@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد الأخبار