بين عشية وضحاها تحوّل المسجد العمري الكبير وسط مدينة غزة إلى كومة ركام، جراء القصف الإسرائيلي في حربه على القطاع التي أطلق عليها “السيوف الحديدية”.

لأكثر من مرّة، عمد الاحتلال إلى قصف المسجد التاريخي الذي يُعتبر من أقدم مساجد القطاع وأكثرها عراقة وشاهداً على الحضارات والأديان المتعاقبة على المنطقة، ما تسبّب في أضرار كبيرة تُعقّد إعادة ترميمه.

ولم يتوقّف الأمر على المسجد الذي سُمّي تيمناً بالخليفة عمر بن الخطاب، بل طاول كنائس وبيوتاً ومواقع تؤكّد أصالة قطاع غزة وعمقه التاريخي والحضاري، ممّا يدفع إلى تساؤلات حول أسباب الاستهداف الإسرائيلي لتراث القطاع العمراني.

 

العمري .. درّة المساجد الغزاوية

يُعدّ “العمري”، الذي أصبح مسجداً قبل أكثر من 14 قرناً، من أكبر وأعرق مساجد غزة، كما يقدّر تاريخه كموقع عبادة بنحو 3 آلاف عام.

وقد كان معبداً وكنيسة في الحقبة قبل الإسلاميّة، وبهذا لديه أهمية أركيولوجية ورمزية ثقافية كبيرة، ليس في غزة فقط، بل في تاريخ فلسطين والمنطقة.

وهو ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجدين الأقصى وأحمد باشا الجزار في عكا، ويوازيه مساحةً جامع المحمودية في يافا في الداخل المحتل.

وتبلغ مساحة المسجد العمري نحو 4100 متر مربع، أما مساحة فنائه فتصل إلى 1190 متراً مربعاً، إذ يحمل المبنى نحو 38 عموداً رخامياً تعكس جمال الفن المعماري للعصور المختلفة.

.

استهداف الكنائس

وخلال الحرب الحاليّة على غزة تتعرّض المناطق الأثرية لاستهداف ومساس واضح من الاحتلال الإسرائيلي، وعمليات قصف رغم المعرفة المسبقة بمواقعها.

ولم يقتصر الأمر على استهداف المساجد، بل طال الكنائس التي يعود بعضها إلى العصر الروماني، وهو ما فسرته الجهات الحكومية والحقوقية الفلسطينيّة على أنه محاولة طمس الوجود الفلسطيني في القطاع وشواهده التاريخية.

في الوقت ذاته، دمرت طائرات حربية إسرائيلية “بيت السقا” الأثري في حي الشجاعية شرقيّ مدينة غزة، الذي يعود تاريخ بنائه إلى 400 عام على مساحة كانت تبلغ 700 متر.

إلى جانب ذلك، لحقت أضرار متفاوتة بمواقع تراثية أخرى عدة، مثل موقع تل أم عامر أو “دير القديس هيلاريون” الذي يعود بناؤه إلى أكثر من 1600 عام، وبيت “الغصين”، وهو مبنى تاريخي يعود إلى أواخر الحكم العثماني، وحمّام “السمارة” الذي يعود تاريخه إلى عام 1320 على الأقل.

.

خسارة حضارية كبيرة

حول هذا التدمير لمواقع أثرية في غزة يقول إسماعيل الثوابتة، المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي، إن “عديداً من المراكز التراثية والأثرية في قطاع غزة تعرّضت لأضرار جسيمة نتيجة الحرب الإسرائيلية الوحشية على كل شيء، إذ استهدف جيش الاحتلال أكثر من 200 موقع تراثي وأثري، بما في ذلك المساجد والكنائس والمدارس والمنازل القديمة”.

ويبيّن الثوابتة في حديثه مع TRT عربي، أن من المواقع الأكثر تضرراً، المسجد العمري في مدينة جباليا، والمسجد العمري الكبير في مدينة غزة، ومسجد الشيخ رضوان.

ويشير إلى أنّ مدينة غزة القديمة (حيّ تاريخي في مدينة غزة) التي تعود إلى العصر الفينيقي وتضمّ آثاراً كثيرة، تعرّضَت للقصف والاستهداف، وأضرار بالغة في عديد من مبانيها القديمة، بما في ذلك الأسوار والبوّابات.

ويلفت الثوابتة إلى أن القصف الإسرائيلي عمد إلى تدمير مبانٍ مسيحيّة أيضاً، واستهدف “عدة كنائس من أبرزها كنيسة القديس جورج في غزة، وكنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس وهي أقدم كنيسة في قطاع غزة وتقع جنب مسجد في البلدة القديمة في غزة القديمة، وقد بُنِيَت فوق ضريح القديس برفيريوس، إلى جانب المباني الداخلية والكنيسة داخل المستشفى الأهلي العربي المعمداني”.

.

ماذا تريد إسرائيل؟

ويعتقد الثوابتة أن “الاحتلال يهدف إلى تدمير المعالم التاريخية في قطاع غزة”، معتبراً أنه “عمل إجرامي يهدف إلى إلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني وتاريخه وثقافته، إلى جانب النيل من التراث الثقافي الفلسطيني”.

ويؤكد المديرُ العامّ للمكتب الإعلامي الحكومي أن “الاحتلال يريد كسر إرادة الشعب الفلسطيني باستهداف المعالم التاريخية، وبثّ الرعب في نفوس الفلسطينيين وإشعارهم بالعجز والضعف، كما يسعى لكسر إرادة الشعب الفلسطيني وجعله يستسلم”.

ويرجّح الثوابتة أن من بين الأهداف الإسرائيلية “السعي لترسيخ الاحتلال في فلسطين، والقضاء على أي رمز أو إشارة تشير إلى وجود الشعب الفلسطيني، وتعزيز مخطّطات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإفراغها من سكّانها”.

من جهته يقول رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده، إن “قوات الاحتلال الإسرائيلي تتعمّد تدمير المعالم الأثرية الفلسطينية في قطاع غزة في ظل حربها الدمويّة المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في استهداف صريح للإرث الحضاري الإنساني”.

ويضيف عبده لـTRT عربي، أن القانون الدولي الإنساني -ولا سيما اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح والبروتوكول الثاني للاتفاقية لعام 1999- تحظر الاستهداف المتعمد في الظروف كافةً للمواقع الثقافية والدينية التي لا تشكّل أهدافاً عسكريّة مشروعة ولا ضرورة عسكريّة حتمية.

ويلفت إلى أن المرصد وثّق هجمات جوية ومدفعيّة شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على مواقع تاريخية عديدة تشكل الجزء الأبرز في التراث الثقافي في قطاع غزة، بما في ذلك مواقع أثريّة ومبانٍ تاريخية ودور العبادة والمتاحف، ما أدى إلى دمار وأضرار كبيرة فيها.

ومن ذلك، يضيف عبده: “استهداف جيش الاحتلال تدمير مئذنة المسجد العمري التي يعود تاريخ بنائها إلى 1400 عام، علماً أنه المسجد الأكبر والأقدم في قطاع غزة، بمساحة تبلغ نحو 4100 متر مربع فيما كانت مساحة البناء تبلغ 1800 متر مربع”.

ويشير رئيس المرصد الأورومتوسطي إلى أن الجيش الإسرائيلي استهدف كذلك 3 كنائس تاريخية في قطاع غزة، لا سيما كنيسة القديس (برفيريوس) العريقة.

وتُعَدّ أقدم كنيسة في غزة، ويعود تاريخ بنائها الأصلي إلى عام 407 ميلادية، وشُيّدت فوق معبد وثني خشبي يعود إلى حقبة سابقة.

وحسب عبده، تَعرَّض معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة وفيها 146 بيتاً قديماً إضافة إلى مساجد وكنائس وأسواق ومدارس قديمة وتاريخية، لتدمير شبه كليّ في هجمات جويّة ومدفعية إسرائيلية.

فضلاً عن تدمير موقع البلاخية الأثري، وميناء غزة القديم المعروف أيضاً بـ”ميناء الأنثيدون الأثري” في شمال غرب مدينة غزة، والذي يعود بناؤه إلى 800 عام قبل الميلاد، وكان يُعتبر من أهم المعالم الأثرية في غزة ومدرجاً على اللّائحة التمهيدية للتراث العالمي ولائحة التراث الإسلامي.

.

قائمة من التدمير

وحسب مسح أجرته منظمة “تراث من أجل السلام الدولية”، ومقرها إسبانيا، فإن 104 مواقع تراثية وأثرية دمّرها القصف الإسرائيلي، في الشهر الأول للحرب، سواء كليّاً أو جزئيّاً، أو طالتها أضرار جانبية، ما يتطلّب تدخلاً لإعادة ترميمها، وهي من أصل 325 موقعاً في القطاع.

وأهمّ المواقع التي دُمّرت كليّاً، وفق المنظمة، كنيسة جباليا البيزنطية (قصف مباشر)، والمسجد العمري في جباليا (قصف مباشر)، ومسجد الشيخ شعبان (قصف مباشر)، ومسجد الظفر دمري في الشجاعية (قصف مباشر)، ومقام الخضر في دير البلح (قصف مباشر)، وموقع البلاخية (ميناء الأنثيدون) في شمال غربي مدينة غزة القديمة (قصف مباشر)، ومسجد خليل الرحمن في منطقة عبسان في خان يونس (قصف مباشر)، ومركز المخطوطات والوثائق القديمة في مدينة غزة (قصف مباشر).

كما دمّر الاحتلال تدميراً شبه كامل كنيسة القديس برفيريوس في حي الزيتون بمدينة غزة، وهي أقدم كنيسة في المدينة، بعدما قصفها أيضاً مباشرة مرتكباً مجزرة في حق النازحين في الكنيسة.

أما المواقع التي دُمّرت جزئياً، حسب المسح ذاته، فهي بيت السقا الأثري في الشجاعية، وتل المنطار في مدينة غزة، وتل السكن في الزهراء، وتبة 86 في القرارة، وسوق مازن شرقيّ خان يونس، وموقع الفخاري، ومسجد السيد هاشم في مدينة غزة.