التجنيد والتجنّد والحرب والعمل الوطنيّ
(وقفات على المفارق)
الوقفة الأولى… مع التمجيد والتحريض
من نافل القول إنّ الحرب الأخيرة؛ (طوفان الأقصى \ الحراب الحديديّة)، ليست كبقيّة الحروب الإسرائيليّة العربيّة. ومن نافل القول أيضًا إنّ في كلّ حروب إسرائيل يسقط جنود عرب؛ دروز مُجنّدون جبرًا وغير دروز متجنّدون طوعًا. فتنتحب الثكالى ويبكي الثاكلون هنا وهناك تقطّعًا، وعلى ظهور هؤلاء “يضحك في عبّهم” تجّار المنابر وشبكات التواصل، هذا يشيد ويمجّد، وما نفع الميْت في التمجيد والإشادة. وذاك يحرّض ويتشفّى، وما ضرّ الميْت في التحريض والتشفّي؟!
الوقفة الثانية… مع دُنقل
وقفت منذ مدّة ليست قصيرة عن التناول الكتابيّ للقضايا التي تخصّ المشهد السياسي العربي الدرزي والعربيّ العام، اللّهم إلّا أدبيّا من خلال أطروحاتي الأدبيّة من موقعي كأمين عام “الاتّحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيّين- الكرمل48”. وصراحة أقول: إنّ مردّ ذلك هو الإحباط النابع من الشعور الطاغي أنّا في زمن: “دقّ الميّ وهي ميّ!”.
ومع هذا كلّما “دقّ الكوز في الجرّة” يمتلئ هاتفي المحمول بالرسائل النصيّة والأفلام الرقميّة (الديجيتاليّة)، بما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي “قايمِه قاعدِه”. ويفيض أكثر كلّما قُتل جنديّ درزيّ في الجيش الإسرائيلي، إشادة بالبطل من ناحية، ومن الأخرى، وعلى الغالب خارجيّة، تحريضًا على الدروز، كلّ الدروز. فوجدتّني أعود وأترحّم على أمل دُنقل وقوله: “قُلْها وامشِ!” بعد كان الصّمت المضني لفّه وزملاءه طويلًا بعد صاعقة هزيمة ال-67.
الوقفة الثالثة… مع الاستفزاز!
لا يستفزّني في الرسائل لا البطولة ولا التحريض إلّا بالقدر الطبيعيّ، ما يستفزّ، وليس بالقدر الطبيعيّ، هو رسائل وتعليقات أبناء القوى (الوطنيّة، العروبيّة، القوميّة، التقدميّة، النهضويّة، المتنوّرة بين الدروز… – اختر ما شئت وزد) والتي تنضح بـ “الوعظ” الذي لا يتعدّى الميادين الرقميّة. أمّا الفعل الميدانيّ فهذا عند غالبيّة مثل هؤلاء هو لغيرهم، و”كفى المؤمنين شرّ القتال”!
وما يستفزّ أكثر هو ال- “لا من سمع ولا من شاف ولا من حكى” لدى مثل هذه القوى بين بقيّة أبناء شعبنا، وامتلاء الأفواه ماءً في مواجهة التحريض الجمعيّ الأرعن!
الوقفة الرابعة…والتجنيد والتجنّد!
حقيقة هي أن بعض المجنّدين الدروز في الجيش الإسرائيلي يفعلون ذلك بفخر واعتزاز. وحقيقة هي أنّ عدد المجنّدين الدروز، ورغم إجباريّة التجنيد والثمن الغالي الذي يدفعه الرافضون، في تناقص مضّطرد منذ سنوات. وحقيقة هي أن عدد المتجنّدين (المتطوّعين) من بقيّة طوائف أبناء شعبنا في ازدياد مضطرد ويفوق عدد المجنّدين الدروز (المُجبرين).
هذه حقائق يعرفها من يقرأ ويتابع الدراسات البحثيّة العلميّة، وللمثال؛ مؤتمر هرتسليّا للشؤون الاستراتيجيّة عام 2009، والقسم المتعدّد الثقافات- جامعة حيفا من نفس العام، وعشرات الأبحاث الأخرى. ولكن يتعامى عن هذه الأبحاث، مع سبق إصرار وترصّد، المُجهِّلون المحرّضون، ويجهلها أعداء القراءة الذين يفطرون ويتعشّون على “نكاح المُتعة” المعقود بين المؤسّسة الإسرائيليّة وإعلامها والرجعيّة العربيّة والتخلّف العربي الواقعي والافتراضي.
الكلام أعلاه ليس تبريرًا، فالحالتان؛ التجنيد والتجنّد، مترابطتان وتغذيّان الواحدة الأخرى. بالكلام “المْشَبْرح”: فإنّ التطوّع الواسع والمتّسع لدى العرب بشكل عام يغذّي دعاة التجنيد لدى العرب الدروز، لا بل إنّه أقصى ما يتمنّون لتعزيز مواقعهم لدى المؤسّسة، سيّدتهم!
الوقفة الخامسة… والدالّة البيانيّة الوطنيّة
لا أعتقد أنّ اثنين، على ساحتنا الوطنيّة الفلسطينيّة الداخليّة، يختلفان حول الانحسار والتراجع الحاصلين في العمل الوطنيّ الجمعيّ في العقد الأخير، انحسار وتراجع أمام الواقعيّة (البراجماتيّة) الانتهازيّة ولبوسها الطائفيّ، وأمام الانكفاء والنكوص نحو الذات (المصلحة الشخصيّة). فالدالّة البيانيّة الوطنيّة تهوي متسارعة على ساحتنا عامّة، وتهوي وتكاد تغيب على الساحة الوطنيّة العربيّة الدرزيّة.
كتبت في تمهيد لكتاب، صدر مؤخّرًا عن “دار الحديث للطباعة والنشر- أبو ركن”، يحمل العنوان: “العرب الدروز 48 وحجارة الرحى”: “المسيرة الحياتيّة لأيّ شعب في صيرورتها وسيرورتها وبأوجهها؛ الإنسانيّة والقوميّة والوطنية والسياسيّة والاجتماعيّة، هي لمجموع أبناء الشعب، مهما اختلفت انتماءاتهم الثانوية عقائديا، اجتماعيا، طائفيا ومذهبيا. وقلّما يشار في الأدبيّات إلى حال شريحة من الشرائح بمعزل عن المسيرة الكلّية، إلا إذا حتّمت ذلك دواع موضوعية… العرب الدُّروز الفلسطينيّون من أبناء شعبنا صاروا أو صُيّروا حالة خاصّة من حالة خاصّة؛ حالة الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة ما بعد وعلى ضوء النكبة وقيام دولة إسرائيل. حالة تحتّم تناولها بحلوها ومرّها ولكن من خلال ترابط لا ينفصم مع فضائهم الكينونيّ الأوسع، أمّتهم وشعبهم، ومن خلال إدراك الإشكاليّة خصوصا القوميّة منها…”
الوقفة الأخيرة… والحبل السُّرِّي
تمامًا مثلما يغذّي التجنّدُ (التطوّع) التجنيدَ (الإجباري) والعكس، بـ “حبل “سُرِّي” لا ينفصم، هكذا يغذّي العملُ الوطنيّ العام العملَ الوطنيّ بين العرب الدروز. ولنكن واضحين صريحين ودون لفّ أو دوران، فالحبل الأوّل في اتّساع، وأمّا الثاني ففي انحسار وإن ضاق أكثر فإلى انقطاع.
نحن ما زلنا قادرين ليس فقط على الحفاظ على الحبل الوطنيّ “السُّرِّي” متّصلًا لا بل ومعافى، إن أحسنّا كقوى وطنيّة العزوف عن الآراء المسبقة الناتجة عن التقوقع الاجتماعي (الطائفي) والسياسي (الحزبي) والعقائدي (الدِّيني)، ومع كلّ ذلك إن أحسنّا العزوف عن التقوقع “الذاتويّ”؛ أنا ومن بعدي الطوفان!
ربّ قائل: حبل السُّرَّة إلى انقطاع وبدء حياة، ولكن في سياقنا ما زلنا نحمل قضيّة أو تحملنا!
وكفانا الله شرّ الوعظ والوُعّاظ!
سعيد نفّاع
أواخر حزيران 2024م