توفيق زياد قائد ومثقف مختلف
جواد بولس
تحلّ اليوم الذكرى الثلاثون لرحيل توفيق زيّاد. ما زلت أذكر وقع نبأ رحيله في الخامس من يوليو عام 1994. كانت اللحظة عبثية واخزة، تضربك وتنفذ من جلدك لتستقر في وجدانك، في خانات الوجع والذكرى والحنين. كنت في مكتبي في القدس حين بدأ الرفاق والأصدقاء يتناقلون تفاصيل المأساة وما فعله “ضارب النرد، وصانع الأقدار ” بمن كان لنا وكنـا منه.
كان الجميع يتمنون أن تكون الأخبار كاذبة ولا أكثر من مجرد دعايات دنيئة يطلقها من أرادوا لأبي الأمين الموت، وقد كان ندّهم الذي لا يهاب ولا يهادن ولا يرائي، بل كان يواجههم في كل موقع وميدان ومن على كل منصة متحدّيا ومرددا : “هنا على صدوركم ، باقون كالجدار ، نجوع، نعرى، نتحدى، ننشد الأشعار، ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات ونملأ السجون كبرياء”.
تأكدنا من الخبر, وعرفنا أننا خسرنا قائدًا وطنيا فذا و”مثقفًا مختلفا”. كان بالنسبة لأبناء جيلنا وللكثيرين من أحرار فلسطين والعالم، بمثابة العزوة والقدوة ومراح أمنياتنا. رحل الشاعر وحادي القوافل والحالم الفلسطيني وترك وراءه وعودا وعواصف وقسمًا مجدولًا بشدة بحبه لبلاده بأنه “لا يفنى، ولا يموت لكنّه يتجدد”. فهل حفظت ناصرته له العهد ؟ وهل يحرق شعبه في ذكراه عود الند وينثر الزنبق.
أحب الكتابة عن توفيق زياد الذي في خاطري؛ وأشعر حين أكتب عنه انني أعيش على “حفيف الشوق، في غابات زيتونه” وأتحسر لأن قومه “ليس باقيا على العهد”، فحاضر مجتمعنا يحتضر في زحمة انتكاسات مهلكة ومتدافعة بجنون ولا تجد من يوقفها ولا من يصد مواجعها.
ثلاثون عامًا مرّت ولم يقم أي “مناد” أو “مغن” من حزب توفيق زياد أو من بين قومه, لا في المثلث ولا في الجليل أو النقب، ليشدو ببحته المريحة أننا، كما غنى وقال، “شعب أشدّ من المستحيل” وأن نيراننا كنيران الماجوس “تضيء من المهد الى اللحد” .
ثلاثون طويت وقد تغيرّت فيها الكلمات واختفت المعاني واليافطات، فالمسدس، لا المطرقة، صار شعار ساحة البلد، والمناجل تحوّلت إلى خناجر، والناس، البسطاء ورفاق الشاعر في القصيدة وفي الوصية، تشتتوا حتى وجد بعضهم دالته وسكينته عند عتبات السماء، واضطر بعضهم الآخر إلى تصغير أكتافهم حول موائد السلطان.
أفكّر أحيانا، ماذا لو يصحو اليوم توفيق زياد ويعود إلى جليله ويرى كيف تيتّم الكادحون بعد أن تخثرت دماء أحزابهم وفقدوا فراديسهم الموعودة؟ سوف يحزن وسوف يثور بلا شك، لكنه لن يبكي ولن ييأس؛ فأمثاله لا يعرفون البكاء ولا الاستسلام. أسمعه منشدًا ، كما أحب: “ما دامت في أرضي زهرة، ما دامت في وطني صخرة، ما دامت في الأفق سحابة، ما دامت في الأرض ترابة، سأعيش وأحيا”. لو تعيده الناصرة إلى “عينها” ليوم واحد ولو مجازا، ستراه ثائرا وسينفخ في “شبابته الفلسطينية ويعبئها أنفاسا ومواويل”، ويعصر الصخر والفجر أمالا وماء ويأكل التراب إن عز في الليل مأوى، وسيهتدي بسوَر عزته وبتراتيله وأولها حتمًا ستكون: “أنا ما هنت في وطني ولا صغّرت أكتافي، وقفت بوجه ظلامي يتيما عاريا حافي”. إنه توفيق زياد الذي عرفناه في أعتى المعارك وفي أجمل الحلقات.
سألت صديقا من زمن دراستي الجامعية كيف يتذكر اليوم توفيق زياد. فأجابني بتلقائية واضحة: “ما زلت أذكر اللحظة التي سمعنا فيها عن موته. كنا في جامعة تل-أبيب وشعرت بنفس الشعور الذي أصابني بعد موت جمال عبد الناصر وجدي أبي ابراهيم”. سألته عن قصده, فاجاب: “الشعور بالفقد”، وشرح بأنه في هذه الحالات الثلاث شعر بأنه خسر على المستوى الشخصي، وليس على المستوى العام وحسب، “شيئا لا يعوض” وأردف: “أقصد، إحساس لا إرادي بالفراغ، مثلما حصل معك عندما رحل فيصل ومحمود”؛ وكان يعني فيصل الحسيني ومحمود درويش. “لقد كان ابو الأمين, صمام الأمام” قال، وأضاف: “أي شيء كان سيحدث لنا كنا واثقين أن أبا الأمين موجود! ” هكذا، بالمختصر الفصيح، شعرت أجيال متعاقبة كانت قد تربّت في أرض حرثها وزرعها ورعاها توفيق زياد ورفاقه.
كان معنا، في الجلسة، قريب يصغرنا سنًا. عندما سمع انني سأكتب عن توفيق زياد أبدى سروره وموافقته، فسألته عن سبب ذلك وماذا يعني له اليوم رحيل هذا الشخص مع انه كان حينها صغيرا، فاجاب: “عندما كنت صغيرا لم أكن أحب الشيوعيين لأجل استعلائهم وتقزيم وتخوين غيرهم”. قال وصمت برهة ثم أوضح بعدها أنه يرى اليوم أهمية القائد الذي مثل توفيق زياد لأنه رجل “شجاع وداعية سلام حقيقي وأممي ووطني” وأضاف: “كنت صغيرا، لكنني أدركت أن مشروع مخيمات العمل التطوعي، التي بادر اليها ورعاها توفيق زياد وبلدية الناصرة آنذاك كانت مبادرة عبقرية”. رغم قتامة راهننا وشيوع العتمة، إلا أنه تبقّى في قناديلنا بعض من زيت ونور.
لقد أعادتني ملاحظته إلى تلك السنوات العظام التي كانت تتحول فيها الناصرة إلى “محج” تتسابق على زيارته الوفود خلال أيام انعقاد معسكرات العمل التطوعي. لا أعرف ماذا تعرف أجيال زمن ما بعد توفيق زياد عن تلك الحقبة؛ لكنني أتذكر كيف كنا، طلابا في الجامعات، ننتظر عامًا بعد عام حلول”مواسم العز” تلك، ونتقاطر الى الناصرة ومعنا آلاف المتطوعين من أبناء شعبنا ومن جميع أنحاء فلسطين المحتلة وأحرار العالم . كان توفيق زياد يتقدم ساحات العمل ويرسم، مع كوادر جبهته القياديه والميدانية، معالم سماء جديدة، لا فوق الناصرة وحسب بل في الشرق كله. أكتب اليوم وأتذكر كيف رسّخت تلك المعسكرات في نفوس آلاف مؤلفة من المشاركين معاني العطاء والعمل الصالح للمجتمع وكيف كان العرق المتصبب من سواعد الشباب ومن جباه الفتيات، يتدفق دماء معافاة في عروق مجتمع كان ينظر ويحترم ويتقبل ويرضى ويتحول الى الأحسن. وكيف كانت تنصهر “الأنا” في الجسد الواحد مع “أنوات” أخرى وتكوّن كيانًا منيعًا يقدس أفراده قيم العطاء والقناعة والتكافل والتواضع وقبول الآخر المختلف واحترامه، والفرح الخالص والحب. كانت أيام تحديات كبيرة على جبهات متعددة وفي قبالتها كانت اصرارات على مواقف ورؤى لا مهادنة فيها؛ وكان يقف على ضبط نبضها قائد كان يعرف كيف يصهر وطنيته الفلسطينية الصافية وأمميته النقية في بوتقة ويخلق منهما مثال المناضل الصارم والانسان المقدام.
كنا نشارك بفرح، ونشعر اننا نبني بعزائمنا مداميك لمستقبل سيكون أفضل بكثير وأكثر أمانا لجميع الناس. لم نهب، أيامها، أي عقبة ولا عثرة فأمامنا كان يقف قائد شجاع، ومفكر حكيم ومهندس وطني وشاعر رقيق ومغنّ، كان مستعدا أن “يعطي نصف عمره للذي يجعل طفلا باكيا يضحك، ونصفه الثاني ليحمي زهرة خضراء أن تهلك”. كان بيننا وعلّمنا أن من “يلمّ العطر عند شواطىء الليلك” حتما، وإن رحل، ففي كل شيء سيعيش وسيبقى.
أحب أن أكتب عن توفيق زياد، فقبل أعوام وفي أعقاب مقالة كتبتها في ذكرى رحيله خاطبني الناقد الكبير الاستاذ فيصل دراج بما يلي: ” الشكر لك غير مرة: الشكر على اجتهادك المستمر في إرسال ما تكتبه إليّ، فهو يصلني بأجواء فلسطين، ما تبقّى منها، ذلك أن الكلمات لا تأخذ مكان الوقائع المشخصة. والشكر لك على هذه اللغة التي تحافظ على كرامتها في زمن تمادى فيه العبث باللغة وأصبحت الكتابة عبثا. والشكر لذكر توفيق زياد، المثقف المختلف، الذي جمع بين الرجولة والثقافة، وترك لنا ما لا يشبه توفيق زياد، إلّا في صدف سعيدة قليله. في كتابات بعض الناس شيء من نور وأنت منهم”. إنه في الحقيقة النور الذي يفيض من فضاءات توفيق زياد وأيام ولّت وليتها لم تولّ.
ثلاثون عامًا مرّت وأنا مثل كثيرين من أبناء جيلي، أتحرّش في استحضار الذكرى ، لأن في استحضارها قسط من وفاء لمن يستحق أكثر من وقفة على شرفة تاريخه، وفيها بعض من وجع على رحيل قطعة من تاريخ كان يرسمه مع رفاقه ذلك “المثقف المختلف” الذي رحل “وترك لنا ما لا يشبه توفيق زياد إلا في صدف سعيدة قليلة”.. فمن يأخذ نصف عمرنا ويأتنا بمثل هذه الصدف السعيدة؟