روحيَ اليتيمةُ
(إلى مَنْ لا نعرفُ لَهُ غيابًا، بَلْ حضورًا ورديَّ الوجنتينِ، عاقدَ الحاجبينِ، ثاقبَ النّظراتِ، ماضيًا بسرعةٍ وثقةٍ نحوَ أهدافِه وواجباتِهِ ومسؤوليّاتِهِ، والدي الغالي، وأبي الأبيِّ العالي: أحمد نايف الحاج)
حبسَتْني تلكَ اللّحظاتُ أكثرَ مِنْ أسبوعَيْنِ، حَبْسًا عَقَدَ لساني، أَذهلَ وجداني، أَقْعَدَ همّتي، شرّدَ ذهني وأَعْجَزَني عنِ استيعابِ أحوالي. ما زلْتُ هناكَ، فوقَ سريرِكَ، أتأمّلُ ملامِحَكَ الّتي تركَتْ حَيّزَها في السّماءِ وترجّلَتْ عَنْ صهوةِ جوادِها المُجنّحِ، وتمدَّدَتْ تحتَ أَنظارِنا، لنُلقيَ النّظرةَ الأخيرةَ عليها، في طريقِها إلى مأواها الأخيرِ، حيثُ يحضُنُكَ ترابُ الأرضِ الّتي أحببْتَها وأَلِفْتَها وآنَسْتَها في وَحشَتِها.
أَرفَعُ يَدِي إلى جبينِكَ، وأنا واقفٌ جَنْبَ سريرِكَ، بالكادِ تَبْلُغُ سُمُوَّكَ، أَتمَسَّحُ بصفحَتِهِ كما يتمسَّحُ الطّفلُ بثديِ أُمِّهِ مَدفوعًا بغريزةِ البقاءِ، لا يُدركُ حجمَ ذلكَ العطاءِ؛ هذا المكانُ يرفعُني إلى ذُرى الصّفاءِ والنّقاءِ والسّناءِ والإباءِ والعَلاءِ، كانَ هذا البهاءُ يُخيّبُ الرّجاءَ في بلوغِهِ، كانَ عصيًّا على كفِّ طفلٍ، فصبيٍّ، فشابٍّ، فكهلٍ شَرَعَتْ أوراقُهُ الصّفراءُ بالتّساقُطِ في تشرينَ، بعدَ أَنْ قطَعَتْ رحلةَ الرّبيعِ والصّيفِ وهي تَلهَثُ مُحاولةً الصّمودَ على سفحِ الجبلِ، يا قمّةً تجاوزَتْ مدى بَصَري وبَصيرتي وخيالي.
أَنحدرُ مِنْ عُلُوِّ الجبينِ إلى حاجبَيْكَ اللّذيْنِ أحاطا وجهَكَ بالجِدّيّةِ والهيبةِ والوَقارِ، أُمسّدْهُما مُحقِّقًا بذلكَ ما لمْ أَكُنْ أَحلُمُ بِهِ، وألمِسُ أنْفَكَ المُطِلَّ مِنْ ذُروةِ عَليائِهِ غيرَ مُصَدِّقٍ؛ أُعَرِّجُ على خدّيكَ وقد فقدتا نضارةَ الرّمّانِ الّذي قطفناهُ في أيلولَ؛ وأتمتَّعُ وأنا أَتحسّسُ شاربيكَ اللّذيْنِ سَكَنا على شفتِكَ الُعليا، لأوّلِ مرّةٍ دونَ حِراكِ، وتواصلُ أصابعي رحلتَها إلى شفتِكَ السُّفلى تُغلِقُ مَخرَجَ الكلامِ، يا سيّدَ الكلامِ، أيُّها المُتحدّثُ الفصيحُ المُفوَّهُ، يا فارسَ الشّعراءِ وجَهْبَذَ البلاغةِ؛ أَصِلُ إلى حافّةِ الذَّقْنِ وقدْ طالَ الشّعْرُ على غيرِ عادةٍ. أُلاطفُ ما حلُمْتُ ببلوغِهِ بفرحٍ حزينٍ وعِشْقٍ كريهٍ.
أرنو إلى عينيكَ المُغمضتَيْنِ وآخذُ كفَّكَ الذّابلةَ بكفّي، أَفركُها بكلتا يديَّ، فلا يظهرِ الماردُ لِآمرَهُ بِالقيامِ بِمُعجزةٍ صغيرةٍ كبيرةٍ؛ كمْ صافحَتْ هذهِ الكفُّ مِنَ المَعارفِ والضّيوفِ والأصدقاءِ وهي تَشدُّ العزيمةَ، وتَمحو الضّغينةَ، وتُفَرّجُ كَرْبَ النّفسِ الحزينةِ، وتُباركُ أفراحَ الأحبّةِ بحرارةٍ تُضيءُ النّجومَ في فضاءِ الوجهِ، وتُحرّكُ موجَ الضّحكاتِ في مُحيطِ الصّدرِ وبحرِ الثَّغْرِ! كمْ صافَحَتْ تُسامحُ مَنْ أَخْطَأَ، ومَنْ أَساءَ، ومَنِ اعتدى!
كمْ كتبتْ هذهِ الكفُّ من مقالاتٍ مُثريةٍ، ومِنْ قصائدَ عصماءَ، أَبدعَتْ روائعَ نُعلّقُها على جدرانِ ثقافتِنا، وأدبِنا، ومجتمعِنا، وإنسانيّتِنا، وقلوبِنا! أربعةُ دواوينَ شعرٍ لم تتّسعْ لقريحتِكَ الإبداعيّةِ الفيّاضةِ، وفوقَها كتابُ نثرٍ ضاقَ بمقالاتٍ أدبيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ، وظلّتِ الكفُّ عطشى للمزيدِ!
كمْ صلّحتْ هذهِ الكفُّ امتحاناتٍ لطلّابِها، أربعةُ عقودٍ وما كَلَّتْ ولا مَلَّتْ، ما تهاوَنَتْ وما تخاذلَتْ وما تكاسَلَتْ، ما هانَتْ وما وَهنَتْ؛ وكمْ كتبتْ على ألواحِ الصّفوفِ، كلَّ يومٍ كتبتْ، كلَّ حصّةٍ كتبتْ، وهي مريضةٌ كتبتْ، وهي مكسورةٌ كتبتْ، وهي حزينةٌ كتبتْ، وهي مُتعبةٌ كتبتْ، دونَ مَنٍّ أو أذًى!
أَشُدُّ على كفّهِ وهي تُحكِمُ قبضَتَها على الفأسِ والمِقَصِّ والمِنشارِ تُقلّمُ أشجارَ الزّيتونِ في “المصرارة” و“الطّوّال” و“أبو فطير” و“التّربيعة“، والزّيتوناتُ تَرقصْنَ على وقعِ الجَزْمِ والقَصِّ والنّشرِ مزهُوّاتٍ، مُشرئبّاتِ الأعناقِ، يَتمايلْنَ بينَ يديهِ كأُمِّ العريسِ؛ كم قادَتِ الجَرّارَ ونحنُ نيامٌ، لا تكفُّ عنِ الحراثةِ ونحنُ في سُباتٍ، هذهِ الكفُّ هي بَرَكةُ الغِلالِ، وطَفْحُ السِّلالِ، وعافيةُ الرّجالِ، ونِعمةُ الظّلالِ، وسَنَدُ الآمالِ في البقاءِ الكريمِ على ثراها الجليلِ!
هذهِ الكفُّ، كفُّكَ، كمْ قوّمَتْ مِنَ اعوجاجي، وكمّ ثبّتتْني في ارتجاجي، وجادَتْ عليَّ في احتياجي، شديدةٌ في لينِها، ليّنةٌ في شدّتِها، حازمةٌ في لُطفِها، لطيفةٌ في حزمِها؛ هذهِ الكفُّ صورتي الآنَ، أقبّلُها، وأنادي عليكَ: أبي، هلْ تسمعُني يا أبي، ابقَ معَنا، لا تغادِرْنا، كُنتَ تنتظرُ فرحَ بشّار ومضر وأنمار، وكنتَ تقولُ: أريدُ أنْ أفرحَ بكمْ قبلَ رحيلي، “أنا رِجِل بَرّه ورِجِل جُوّه يا سيدي“؛ اعذرنا يا أبي، لم نُحقّق لكَ أُمنيتَكَ في حياتِكَ، فلا ينضجُ شيءٌ قبلَ أوانِهِ، حتّى في الزّواجِ، أيّها الفلّاحُ المُعتزُّ بأصلِكَ!
يا أَبَتِ، سأظلُّ مُمْسِكًا بكفِّكَ ما حييتُ، أُقبّلُها على ما قامَتْ به، وعلى ما أنا عليه، ليتَني أفيها حقَّها عليَّ وعلى إخوتي وأقربائِنا وأنسبائِنا وأصدقائِنا ومحبّينا ومجتمعِنا. وإنّنا على يقينٍ أنّكَ ستكونُ قريرَ العينِ حينَ نُحافظُ على حَطّتِكَ وعِقالِكَ، على عباءَتِكَ، على أرضِكَ، على قهوتِكَ “السّادةِ“، على قيمِكَ وأخلاقِكَ، على وحدتِنا ومحبّتِنا كما أوصيتَنا.
ستبقى لنا ولمجتمعِنا، لثقافتِنا، لماضينا وحاضرِنا، لإنسانيّتِنا ولعائلتِنا عِزًّا وفَخرًا ومَجدًا مُؤبّدًا!
ابنُكَ الّذي يكلّلُ رأسَهُ باسمِكَ
إياد أحمد الحاج
26/11/2024